"نباتات لبنان المصورة" Lebanon of Flora Illustrated عمل توثيقي شاق أبصر النور أخيراً، من خلال مجلد ضخم، هو نتاج جهد مشترك بين عالمين هما الدكتور جورج طعمة وزوجته الدكتورة هنرييت طعمة، عملا دون كلل زهاء خمسين عاماً أمضياها في البحث والتقصي في أحراج لبنان، المحدودة مساحة والغنية بتنوعها النباتي، ساحلاً وجبلاً وداخلاً.
نباتات متوسطية في بلد يمثل فرادة خاصة في تنوعه المناخي، حيث تنمو فيه نباتات المناطق الباردة ونباتات المناطق الدافئة والحارة في ظاهرة قل نظيرها في بيئات أخرى من العالم، فضلاً عن أن الكثير من النباتات والأزهار معروفة بهويتها اللبنانية، ولاقت من يهتم بها، يوثقها ويشهر هويتها الخاصة ويعلن فرادتها قبل أن تمتد إليها يد تعوّدت سرقة الفرادة، ولا تزال تحاول زوراً باسم العلم تغيير نسب نبتة أو تشويه هويتها ونزع صفة تفردها في بيئة لبنان التي لا تزال حية، عصية على الموت، قادرة على أن تكون مختلفة، على الرغم من جور انتهاك عذريتها وقسوة تغيير معالمها ووحشية التعاطي مع موائل تميّزها، في ظل عشوائية التمدد العمراني واستباحة البيئة البرية والأحراج وقمم الجبال ومجاري الأنهر والوديان.
أهمية هذا الإنجاز العلمي أنه جاء ليوثق هذا الكم الهائل من النباتات، بعد اختفاء وانقراض 118 نبتة من النباتات البرية التي وثقها الأب اليسوعي الفرنسي موترد المتوفي عام 1972، أو تلك التي وثقها قبل نحو ألف عام شيخ أطباء دمشق محيي الدين الصوري وبعده في القرن التاسع عشر بعثات أوروبية، خاصة مع الفرنسي بواسييه وصديقه بلانش، أو تلك التي وثقت في "المتحف الطبيعي" الذي أسس في الجامعة اللبنانية عام 1983 وضم الكثير من أنواع نباتات لبنان المعروف منها حتى الآن 2607 أنواع حسب تصنيف الباحث الدكتور مصطفى نعمة في مؤلفه الجامع "المعجم الاشتقاقي للنباتات" أو تلك الموثقة في معشب القسيس بوست في الجامعة الأميركية في بيروت.
59 نبتة جديدة
في "نباتات لبنان المصورة" نجد أن عشابين لبنانيين استطاعا في رحلة بحث شاقة وطويلة النفس توثيق نباتات لبنان البرية المعروفة سابقاً عبر العشابين التاريخيين، وجلهم من غير اللبنانيين جمعوا نباتات لبنان وسوريا أو نباتات لبنان وسوريا وفلسطين، لكن الثنائي طعمة اهتم بما في بيئة لبنان من نباتات يشارك في بعضها الدول المجاورة ويتفرد في 94 لبنانية، ولم يكتفيا بالمعروف من العشابين القدامى من النباتات، بل أضافا أنواع النباتات المكتشفة بعد العشابين، وأبرزا 59 نبتة جديدة منتشرة في موائل محددة في بيئة لبنان، فوثقاها بالصورة وأعطياها هوياتها أسوة بشقيقاتها النباتات الأخرى المعروفة، وقرنا إعطاء الهوية لكل نبتة من نباتات لبنان الـ 2606 بصور لـ 2600 منها في مراحل الإنبات والإزهار والإثمار، وحفظا من كل نبتة عيّنة في "معشب جورج وهنرييت طعمة" الذي قبلته الدولة اللبنانية هبة من الباحثين وبات مفتوحاً للعالم والطالب والمهتم في "المجلس الوطني للبحوث العلمية" الذي تلقّف مشكوراً جهود الباحثين وأصدر مجلدهما الجامع بصفحاته التي تحمل بطاقات هوية لثروة طبيعية في بيئة عودتنا العطاء، نباتات متفردة، وأخرى غذائية، وثالثة طبية، ومعظمها، ذات جدوى اقتصادية إذا رشد استثمارها.
ويذكر أن الثنائي طعمة كانا قد أصدرا مؤلفاً حمل عنوان "ألف زهرة وزهرة من لبنان" عام 2002، ليأتي "نباتات لبنان المصورة" تتويجاً لمسيرة علمية – نقدية تكون بمتناول الطالب والباحث والعالم والمهتم وكل مواطن راغب في المعرفة لما وثقه العشابون من الصوري إلى بواسييه وبلانش وموترد وبوست وغيرهم من الباحثين اللبنانيين والأجانب، مستفيدين من أبحاث كثيرة مطبوعة ومنشورة ذكراها في "بيبليوغرافيا" المجلد بأمانة علمية تعودناها مع الثنائي الذي يدعو كل لبناني إلى التعرف إلى وطنه، إلى ثروة فيها كل الغنى.
وبفرح العالم المدرك لأهمية البحث العلمي والتوثيق يعلن الدكتور جورج طعمة أن المجلد لاقى الصدى الطيب من مراكز البحث العلمي في العالم. فقد تلقى اتصالاً من مركز ألماني طلب تزويده بنسخ على اعتبار المجلد مرجعاً لنباتات لبنان والشرق الأوسط، وينوّه باهتمام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية FAO والجامعات في لبنان وفي الخارج والطلاب والباحثين وبعض السياسيين.
"النباتات مصورة، مصنفة، ومعرّفة بقياسها المحدد، والأهم أنها كلها موجودة في لبنان، بسبب تنوع مناخه وبيئته"، كما يقول الدكتور طعمة". وبرأيه "لا أحد ينافس لبنان في هذه الثروة، لا سيما إذا ما قارنا الغنى الموجود في هذه المساحة الصغيرة، بالمساحات الشاسعة في أوروبا، وذلك لأن المناخ يتغير في لبنان بين منطقة وأخرى، ولا يفصل بينها أكثر من مسافات قصيرة جدا".
ويضيف بأن "الحفاظ على هذا الإرث ليس بالعملية المعقدة. قواعد بسيطة يمكن أن نتبعها ونطبقها، أبسطها أن لا نقطع زهرة تسكن أرضنا طوال عقود، لتسكن باقة نُهديها، أو إناء يزين بيتنا. أما القواعد الأخرى فتحتاج الى قوانين تتعلق بتخطيط المدن، والأراضي المسموح البناء فيها".
50 عاماً من البحث والتوثيق
ويقول جورج طعمة إنه أمضى وهنرييت نحو 50 عاماً في البحث والتقصّي والتوثيق عبر زيارة موائل النباتات على مدار الفصول لرصد الإنبات والإزهار والإثمار، وأنهما لم يتدخلا في تسمية النباتات واكتفيا بإثبات الإسم العلمي لكل نبتة مضافاً إليه الإسم المتداول – وأحياناً كثيرة الاسم المحلي للنبتة.
ويفخر طعمة بأن الثنائي اللبناني استطاع لأول مرة جمع نباتات لبنان المعروفة ووضعها ودرسها وتوثيقها وإثبات هويتها ذلك أن الآخرين، من الصوري الى موترد إلى غيرهم اهتموا بنباتات لبنان والدول المجاورة من جهة، ووثقوها بالرسم اليدوي (ذلك أن الصوري كان يصطحب رساماً في جولاته للبحث عن النباتات الطبية المستعملة ليضمها الى مراجعه عن تاريخ الطب العربي في ذلك الزمان) والآخرون لم يتمكنوا من التوثيق بالصورة والنموذج، فيما استطاع الثنائي طعمة أن يوثق بالصور والوصف والنماذج في المعشب الخاص لكل نبتة في مراحلها الثلاث، ذلك أن لكل نبتة كما يقول طعمة صورة على الأقل بالألوان في الموقع مع تحديد المكان والموئل والزمان والنوع وجهة الاستعمال ووصف لتميّز النبتة ما يسمح بمعرفتها وكشف هويتها الخاصة المحددة.
ويلفت طعمة الى توثيق 118 نبتة ذكرها موترد واختفت وأخرى صورها الدكتور مصطفى نعمة أوائل السبعينيات واختفت، موضحاً أنه قام مع شريكته هنرييت برحلات إلى باريس حيث تمكنا في "المتحف الوطني للعلوم الطبيعة" في العاصمة الفرنسية من الإطلاع على نتائج أبحاث فرنسية جرت في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تناولت نباتات لبنان واطلعا على الأرشيف والمعاشب والملفات والرسوم والصور وحصلا على 400 ملف لأنواع نباتات لبنانية وثقت بين عام 1846 وعام 1940 وحفظت نماذج عنها في المعاشب مع معلومات عنها وقد تمكنا من ضمها الى معشبهما في المجلس الوطني وإلى مجلدهما الجديد.
أنواع مهددة
ويخشى العالمان من أن الكثير من أنواع النبات في لبنان بات مهدداً ويحتاج إلى جهود علمية فورية لحمايتها ومنع انقراضها وعددها بالعشرات، ويخشى طعمه أن يتحول التهديد لبعض الأنواع إلى انقراض مع تنامي ظاهرة اختفاء الازهار بمعدل كبير كل عام، وذلك جراء حرائق الغابات والمشاريع والطرق والتوسع العمراني والاستغلال الجائر ويعطي مثلاً عن نبتة موثقة اختفت نتيجة الطلب لاستخدامها في باقات الزهر في محلات بيع الزهور. ولم يعثر الباحثان على اثر لها بعد ذلك.
... وكشف لتزوير علمي
ولأن لكل نبتة حكاية مع الثنائي طعمه يروي الدكتور جورج اكتشافه لسرقة موثقة لاحدى النباتات المتفردة في لبنان وهي زهرة "سوسن ميس الجبل" التي سبق ان أعطاها طعمه اسمها وموئلها محيط بلدة ميس الجبل وبلدتي كونين وحولا الجنوبيتين، وهي معروفة تاريخياً موثقة في العام 1875 لكنها اختفت ليعود فيكتشفها موظف في جمارك فرنسا عام 1933 في موئلها الأصلي، لكن صديقاً لطعمه من الأردن حمل إليه وثيقة إسرائيلية تدعي أن الزهرة اكتشفت في جبل الشيخ (في المنطقة التي تحتلها إسرائيل) وانها منتشرة في الجبل، وهذا غير صحيح كما يقول طعمه الذي يؤكد أن موئل الزهرة حصراً في ميس الجبل وكونين وحولا وانه كثيراً ما بحث في جبل الشيخ، جبلاً وسفوحاً من منطقة راشيا إلى حدود فلسطين ولم يعثر على الزهرة، ولتثبيت التفرد في الموئل قصد الأماكن التي اكتشف فيها "سوسن ميس الجبل" بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، وبالتحديد في ابريل من العام 2001 وبحث عن السوسنة على جنبات الطريق التي لم يكن يجرؤ انسان على تخطيها للبحث في الأرض البور نظراً للالغام التي زرعها الاحتلال.
ويضيف طعمه، قفزت من الطريق على صخور في المكان إلى أن وصلت إلى صخرة كبيرة لتظهر أمام ناظري سوسنة ميس الجبل فصورتها في المكان واخذت عينة منها لضمها إلى "المعشب" واخترنا صورتها غلافاً لمجلدنا.
توثيق الإرث الطبيعي والثقافة البيئية
ويأمل الثنائي طعمه أن يتوجه الطلاب والباحثون اللبنانيون إلى دراسة أزهار ونباتات لبنان وتجديد الابحاث حولها وايلاء أهمية خاصة لدراسة خصائص نباتات لبنان المتفردة وتلك التي تحظى بقيمة اقتصادية. على أمل أن يبادر الباحثون إلى عمل مميز كعمل الثنائي طعمه وأن يتمتعوا بابحاثهم في البيئة الفنية بتنوعها والمتفردة ببعض نباتاتها لتبقى غنية ومتفردة وقادرة على جبه الجور والقسوة والانتهاك ولتبقى جميلة قابلة لاستثمار رشيد يحتاجه لبنان في ظل النزف المستمر للموارد.
وليس من قبيل الصدفة أن يؤكد أمين عام المجلس الوطني للبحث العلمي في لبنان د. معين حمزة، بأن العمل أشبه بتحد قام به جورج وهنرييت طعمة، وهو يوثق الإرث الطبيعي والثقافة البيئية في لبنان. ليضيف بأن "التنوع البيئي والطبيعي والمناخي في لبنان، انعكس في هذا المجلد، الذي يعتبر مساهمة للترويج للبنان وللثروة الحرجية والبيئية المجهولة والمهددة بالانقراض".