كثيرون يعرِّفون حبوب الصنوبر في لبنان بـ "الذهب الأبيض"، وليس ثمة مبالغة في هذا التوصيف، خصوصاً إذا علمنا أن إنتاج لبنان يقدر بأكثر من 800 طناً من الصنوبر الابيض الصالح للاستهلاك، وإذا ما ضربنا هذا الرقم – أي 8 آلاف كيلوغرام – بنحو 30 دولار أميركيا للكيلوغرام الواحد كمعدل سعر وسطي، فهذا يعني أن الصنوبر يؤمن مردوداً مالياً سنوياً يقدر بنحو 24 مليون دولار أميركي، يوازي ما تؤمنه عدة قطاعات انتاجية مجتمعة.
لهذا السبب، يبدي العاملون في قطاع الصنوبر في لبنان قدراً كبيراً من الخوف والترقب متصليْن بإمكانية إغراق السوق اللبنانية بالصنوبر التركي والصيني، ولهذا الخوف مبرراته، ذلك أن تخطي سعر الصنوبر عتبة الـ 30 دولاراً يعتبر مؤشراً إيجابياً من جهة وسلبيا من جهة ثانية، إيجابياً لما يمكن أن يحقق من أرباح، وسلبياً انطلاقاً من معادلة اقتصادية اصبحت معروفة وهي تتلخص في ان ارتفاع الاسعار واتجاهها صعوداً يغري التجار المحليين لاستيراد الصنوبر الاجنبي، وحدس المواطنين في موقعه، ذلك أن رئيس "النقابة مزارعي وعمال والصنوبر في لبنان" فخري المصري أكد لـ "غدي نيوز" أن "النقابة تتابع عن كثب حركة السوق منعا لاستيراد الصنوبر من الخارج".
المصري رأى أن "استقرار الوضع السياسي ساهم في ارتفاع الاسعار الى معدلات جيدة". وقال: الموسم الحالي مهم وواعد.
ثروة جمال ومال
شجرة الصنوبر في عرف اللبنانيين تعرف بأنها "ثروة جمال ومال" فهي الى ما تؤمن من انتاج زراعي، تعتبر عامل جذب للسياح والمصطافين وللاستثمارات السياحية، ولم يكن ثمة من يتوقع أن الأغراس القليلة التي حملها الأمير فخر الدين الثاني من توسكانا الإيطالية سنة 1516م ستغطّي نحو عشرين بالمئة من مساحة لبنان الخضراء، وقد ابقت شجرة الصنوبر المواطنين بمنأى عن الازمات الاقتصادية التي شهدها لبنان من منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
يبين المصري بالارقام أهمية هذا القطاع، فيقول: فضلاً عن تشغيل اليد العاملة، يشكل ركيزة مهمة في الاقتصاد اللبناني ومصدر رزق رئيسياً لما يزيد عن الخمسين ألف عائلة لبنانية حسب إحصاء أجرته النقابة قبل ثلاث سنوات، ولكن اذا ما بقيت الاسعار جيدة فنتوقع عمليات استيراد واسعة من الخارج، لذلك نحن بالمرصاد وعلى صلة دائمة بالمزارعين والتجار.
المنافسة والتهريب
المزارع والتاجر رجا صالحة، عرض للمشكلات التي يتعرض لها قطاع الصنوبر اللبناني، وأبرزها المنافسة والتهريب خصوصاً من تركيا، حيث يتمّ تهريب الصنوبر التركي ليباع في الأسواق اللبنانية بأسعار زهيدة. إضافة الى كلفة اليد العاملة المرتفعة، بحيث تبلغ أجرة العامل الذي يتسلّق الشجرة لفرط الصنوبر (لا يمكن قطف أكواز الصنوبر باليد ويستخدم عصا لضربها فتسقط على الارض) حوالى 100 دولار أميركي يومياً، في حين لا تقل أجرة العامل على الأرض عن 35 دولار.
وأشار إلى أن "النقابة والمزارعين طالبوا وزارة الزراعة بمساعدتنا على ضبط توقيت جني موسم الصنوبر بعد تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام، لأن القطاف المبكر يؤدي الى انخفاض الجودة والنوعية، وبالتالي المردود المالي".
عارف مكارم اشار إلى أن "قطف الموسم بدأ منذ نحو أربعة أشهر"، ولفت إلى أن "التأخر في قطف أكواز الصنوبر أفضل لان الثمار تكون قد اكتملت ونضجت ويكون الانتاج افضل".
وقال مكارم: تواجهنا مشكلات كثيرة من بينها السرقة، فالاحراج متداخلة، وثمة من يعمدون الى قطف الثمار خارج نطاق اراضيهم او الاحراج التي ضمنوها من اصحابها. ولفت إلى أنه "مع ارتفاع سعر اليورو قبل سنوات تراجعت عمليات الاستيراد قليلا من الخارج، ولكن مع انخفاض سعر اليورو بدأنا نشهد كميات كبيرة من الصنوبر التركي والصيني والاسباني في الاسواق المحلية"، وتخوف "من أن يؤدي ذلك الى تراجع الاسعار"، ولفت مكارم الى ان "كلفة كيلو الصنوبر الابيض لا تقل عن عشرين دولار"، وشكا من أن "المزارع لا يحصل على تعبه فكيلو الصنوبر الابيض يباع بما بين 22 و 25 دولار فيما يصل للمستهلك بـ 35 دولارا وهكذا يكون المستفيد التاجر الذي يجني الارباح دون تعب ومخاطر".
وعرض مكارم لدورة الانتاج "من قطف وجمع ووضع الاكواز في اكياس ونقلها الى البيوت ووضعها مع بداية شهر أيار (مايو) على اسطح المنازل لتعريضها للشمس فتتفتح تلقائيا ما يسهل لاحقاً استخراج الحب الاسود من خلال آلة تسبق "شباقة" ومن ثم نضع الحب الاسود في مشاغل خاصة تفصل الثمار البيضاء عن القشرة الصلبة لتبدأ عملية التنقية والتوضيب وغسل الحبوب البيضاء بالمياه وتجفيفها جيدا".
تركيا تستورد الصنوبر الاسود
ثمة ظاهرة غير معهودة من قبل، تمثلت مؤخراً في إقدام تجار أتراك على استيراد كميات كبيرة من الصنوبر الاسود، إذ يبدو أنه في مقدورهم تحقيق أرباح مهمة بسبب تدني اسعار الحب الاسود في لبنان نتيجة الفارق بين الليرة اللبنانية واليورو الاوروبي، وهؤلاء يعمدون الى كسر الحب الاسود واستخراج الثمار البيضاء لبيعها في اوروبا باسعار مرتفعة، خصوصا وأن الانتاج اللبناني هو الاجود في مقارنة مع الصنوبر التركي والاسباني والصيني.
ويقول رئيس النقابة فخري المصري أن "بعض المزارعين باعوا مؤخرا كميات من الصنوبر الاسود لتجار أتراك بسعر وصل إلى 5 دولارات وثلاثين سنتا للكيلو الواحد"، ولفت الى أن "تركيا بإمكانها الاستفادة من جودة الصنوبر اللبناني في السوق الاوروبية وعملته اليورو"، وأكد المصري أن "هناك تصديراً للصنوبر اللبناني الابيض الى سوريا والعراق وبعض الدول الاوروبية".
تبقى الاشارة الى ان قطاع الصنوبر يبقى خاضعاً لبورصة الاسعار تبعاً للعرض والطلب، بمعنى أن ثمة مخاطر كثيرة تحكم السوق المحلي، ومن هنا يبقى العمل في هذا القطاع قريبا من المغامرة بالتعب ورأس المال، لا سيما إذا علمنا أنه في سنوات ماضية اضطر كثيرون للخروج من سوق الصنوبر بعد خسائر تكبدوها نتيجة عوامل كثيرة من بينها اغراق السوق المحلي بالصنوبر المستورد وعدم القدرة على المنافسة في الاسواق الخارجية.
أنور عقل ضو