"غدي نيوز" – أنور عقل ضو
لا تكفي مقاربة مشروع "سد القيسماني" في أعالي بلدة حمانا بنتائجه الكارثية من منظور بيئي وصحي فحسب، لأن المشكلة الأخطر التي تواجه لبنان تبقى متمثلة وإلى أجل غير مسمى بـ "تلوث" السياسة، وهي تستحضر المفاسد على مستوى الادارات المحكومة بتسلط ذوي النفوذ كحالة ثابتة تسودها المحاصصة واقتسام المغانم بالتراضي.
لكن ما يدعو للاستغراب بداهةً، أن المبلغ المرصود لإقامة السد يتخطى الـ 20 مليون دولار في منطقة مصنفة سياحياً، وتعاني تلوثاً يطاول مياه ينابيعها لعدم وجود معامل تكرير للصرف الصحي، وهذا يعني أن الأولوية تفترض الحفاظ على الثروة المائية الموجودة. فالأنهار الشتوية التي كانت تمثل ثروة سياحية تحيط بها مقاهي الصيف باتت مجاريَ للصرف الصحي، فضلا عن أنه يمكن توظيف جزء من هذا المبلغ في تأهيل الينابيع الموجودة لرفع قدرتها وطاقتها المائية، من دون إغفال ضرورة إيجاد حل لمئات الآبار الخاصة التي تسببت في نضوب وشح مئات الينابيع في المتن الأعلى.
لا يعني ذلك أن تبقى هذه المنطقة تواجه العطش، إلا أن مشروع السد إياه لا يمثل ضرورة ملحة في منطقة تشكل ينابيعها ثروة حقيقية وروافد مهمة لنهر بيروت، ما يؤكد أن فكرة المشروع جاءت ارتجالا من دون دراسة مسبقة لما ينعم به المتن الأعلى من مصادر مياه أهمها "شلال شاغور حمانا" الأكثر تضررا من مشروع السد، بالاستناد إلى دراسات علمية عدة كان آخرها وأبرزها دراسة علمية نقدية للدراسات السابقة أعدها دكاترة من الجامعة الأميركية في بيروت تمثل جهة "محايدة" ضمت كلا من: معتصم الفاضل، ابراهيم علم الدين، مجدي ابو نجم، جوانا دومّر، شادي نجار، صلاح صادق ومحمد حراجلي، وخلصت إلى أنه "استنادا الى الدراسات التي تمت مراجعتها، من الواضح أنه لم يتم تقييم سد القيسماني المقترح بشكل كافٍ على مختلف المستويات: أكانت الهيدرولوجية أو الجيولوجية المائية أو الزلزالية أو البيئية أو الاجتماعية".
اعتراض بلدية حمانا
تعود فكرة إنشاء سد القيسماني الى العام 1993، وفي العام 1996، وضَعت شركة "ليبان كونسول "Liban consult، دراسة لإنشاء السدّ، وهي الشركة نفسها التي تولَّت اليوم إعداد دراسة السدّ الجديد على حرم نبع الشاغور والإشراف عليه. وقد تسلّمتها الوزارة عام 1998، حتى جاءت فكرة توسِعة المشروع ونقله في العام 2008، فتحوّلت الى مشروع بقرار اتخذ في مجلس الوزراء في آذار (مارس) 2010، حيث وُضعت دراسة ومناقصة جديدتان، وتمّ التلزيم من دون إجراء أيّ دراسة للأثر البيئي باعتراف وزارة البيئة في آذار (مارس) 2013، وتم استدراك الأمر لاحقاً بعد اعتراض بلدية حمانا بدراسة لم تبلغ بها كجهة معنية بالمشروع وتتضمن مغالطات كثيرة.
سد المغيتي
لم تلحظ الدراسة الجديدة استبدال اسم السد من "القيسماني" أي المنطقة التي كان من المقرر أن يقام عليها في خراجي بلدتي حمانا والمريجات (البقاع)، إلى سد "المغيتي" القائم فوق حرم "نبع الشاغور"، وفي منطقة تابعة عقارياً لبلدة فالوغا، تبعاً للتقسيمات الجغرافية والإدارية.
"هذا ما فاجأنا"، يقول رئيس بلدية حمانا جورج شفيق شاهين، ويضيف: "إنّ السدّ أصبح في حرم نبع الشاغور، وهي منطقة من المفترض حمايتها، وممنوع الاستثمار فيها بأكثر من 1 في المئة، وذلك استناداً إلى التصميم التوجيهي والنظام التفصيلي العام المعتمد في وزارة الأشغال العامة والنقل (وفقاً للمرسوم الرقم 15613 الذي صدر عام 2005) والذي "يمنع ضمن المنطقة المحددة H1 الاستثمارات الصناعية والملوّثة، وحتى المواد الكيماوية والعضوية للزراعة، وإنشاء مجمّعات سياحيّة، إضافة إلى عدم وجود شبكات للصرف الصحّي، ما يؤدّي حتماً إلى تلوّث المياه الجوفية التي تغذي نبع الشاغور، المصدر الوحيد لمياه الشفة في بلدتنا".
ووفق المواصفات، يتَّسع السد القديم لـ 550 ألف متر مكعب، بارتفاع 24 متراً وبمساحة 74 هكتاراً، وتمّ على أساسها استملاك 100 ألف متر. وفي 30 أيّار (مايو) 2012، صدر مرسوم جمهوري قضى بالاستملاكات لإنشاء السدّ، من دون إعلام أهالي حمّانا، الذين فوجئوا في العام 2013 بنقله إلى سهل "المغيتي"، من دون أن تأخذ الدراسة المعدّة في الاعتبار وجود حرم نبع الشاغور.
ويؤكد شاهين "ان كلّ الدراسات التي أجريت منوطة بشركة (ليبان كونسول)، وقد تمّ إجراء المناقصات وتلزيم المشروع حينها إلى المتعهّد الذي ربح المناقصة بكلفة 12 مليون دولار. لكن ونظراً إلى عدم تأمين التمويل اللازم، بقيت الدراسة في وزارة الموارد المائية والكهربائية".
وأضاف: "اليوم، أبرمت وزارة الطاقة والمياه اتفاقية قرض مع الصندوق الكويتي للتنمية، لإنشاء مشروع سدّ القيسماني، بقيمة 25 مليون دولار. وعلى الأثر، ارتأى "ليبان كونسول"، بإيعاز من مجلس الإنماء والإعمار، تكبير مساحة السد بما أنّ الأموال موجودة، لتصبح مليون متر مكعّب بدلاً من 550 ألفاً". وإذ لفت الى أنّ "توسيع مساحة السد تتطلّب مصادر مياه إضافية لتعبئة مليون متر مكعّب"، أوضح أنّ "خيار شركة الهندسة المعنية وقع على منطقة اسمها مقعّر سهل المغيتي، حيث مصادر تعبئة خزّان مياه الشاغور".
كلفة دراسة التصميم الثاني ألف ليرة!
وتساءل: "كيف يعقل أن المهندس أنطوان المعوشي من مكتبLiban consult هو من وضع التصميم الأول، وهو من وضع التصميم الثاني مقابل ألف ليرة لبنانية بدل أتعاب؟".
وحيال موضوع الألف ليرة، يقول شاهين: "ثمة من يشير إلى انه كان هناك اعتراض على الدراسة من قبل مدير عام وزارة الطاقة والمياه فادي قمير الذي اعترض ايضاً على كلفة الدراسة التي تعدت المليون دولار، بالرغم من أنه كانت ثمة دراسة للمشروع الاول، وكي لا يكون هناك سجال حيال هذا الموضوع قبل المعوشي بألف ليرة، ومشكور لأنه يقدم خدمات مجانية، ولكن أتساءل كيف يعقل ان يكون مصمما ومشرفا على التنفيذ في نفس الوقت، وهو ايضا واضع كل الدراسات البيئية والجيوليوجية وغيرها؟ وكيف يعقل ان يكون مكتب واحد قائم بكل هذه الاعمال بما فيها الاشراف على التنفيذ؟ ولا ارى ان هذه طريقة سليمة لأي مشروع، وهنا اصبح لدينا شك في دراسات مكتب المعوشي، وتبين لاحقا أن كل الدراسات التي قام بها تم نقضها من قبل دراسة اللجنة المتخصصة في الجامعة الاميركية التي كلفت من قبلنا".
وحول دراسة الأثر البيئي التي أقرت بقانون يلحظ دراسة الاثر البيئي لاي منشأة، قال: "لُزم المشروع من دون الاخذ في الاعتبار دراسة الاثر البيئي، وهذا مثبت لدينا بتواريخ، وسألنا وقتذاك وزارة البيئة التي عادت وأنجزت الدراسة بضغط منا على مجلس الانماء والاعمار الذي طلب من وزارة البيئة اعداد دراسة الاثر البيئي بعد تلزيم المشروع، وتوجهنا الى وزارة البيئة والتقينا الوزير السابق (ناظم الخوري) الذي طلب من مستشاره الاخذ بهواجسنا كبلدية حمانا وعرضنا أن لدينا مخاوف من تلوث مياهنا ونقصانها أو تعرض المنطقة لتصدع زلزالي فضلا عن التغيير البيئي للمنطقة، إضافة إلى أن ثقل السد قد يؤثر على الطبقات الجوفية لنبع الشاغور، ونفاجأ أن السد تم تلزيمه بعد صدور دراسة الاثر البيئي عن وزارة البيئة، ولم نبلغ بالامر، فتوجهنا الى الوزارة مع عضو المجلس البلدي بشير فرحات والتقينا مستشار الوزير وطلبنا نسخة عن الدراسة الموجودة في الوزارة. وقد تبين لنا انها نسخة عن دراسة الاستشاري نفسه ونشك ان تكون وزارة البيئة قد قامت بأية دراسة ميدانية لهذا المشروع. وكان من الواضح ان هناك عجلة للبدء بتنفيذ المشروع من دون علم البلدية.
وزارة الطاقة تنقض قراراتها
وأضاف شاهين: "هناك الدراسات التي أعدها مكتب Liban consult واعتمدها مجلس الاعمار وبوشر ببناء المشروع على أساسها، ولحظت أن تأثيره على مياه نبع الشاغور هو ما بين 1 و 6 في المئة لجهة نقصان المياه، من دون الإشارة الى تلوث المياه، وبعد رفض مكاتب عدة إعداد دراسة لبلدية حمانا لأسباب معروفة، كون مصالحها مع وزارة الطاقة ومجلس الانماء والاعمار وهذا أمر معروف في لبنان، هنا لجأنا الى مكتب المهندسة الدكتورة غلوريا كنعان المسجل درجة أولى لدى وزارة الطاقة، وطلبنا منها إعداد دراسة، خصوصا بعد أن علمنا أنها هي التي قامت بناء على طلب وزارة الطاقة سنة 1998 والتي بموجبها وضع حرم لنبع الشاغور سنة 2002، ونتيجة لهذا الطلب تم تصنيفها من قبل التنظيم المدنيH1 آخذاً في الاعتبار قرار وزارة الطاقة وذكر "حماية لمياه الينابيع"، وقامت كنعان بدراسة موثقة ومعترف بها أن المياه تنقص 42 في المئة، فضلا عن تلوث المياه بنسب لا يمكن معرفتها الا بعد بناء السد، الا ان ما يهمنا هو نقصان المياه، وهذا التقرير طعن به، لذلك توجهنا كمجلس بلدي إلى جهة علمية موثوقة ولا تتأثر بالتجاذبات السياسية ولا بالأمور المادية والمصالح. فاتصلنا بالجامعة الأميركية وتم تشكيل لجنة من اختصاصات عدة، وتعد الجامعة الأميركية دراسة محايدة وموثوقة كونها منزهة عن السياسة والمال".
ملخص دراسة الاميركية
وفي مراجعة لدراسة الجامعة الأميركية حصل "غدي نيوز" على نسخة منها، تبين أنها خلصت إلى أن "المعلومات والمواد الواردة في الدراسات (السابقة) لا تفي بالمتطلبات لمثل هذه المشاريع، في ظل أفضل سيناريو متفائل ليس هناك شك في أن كمية المياه ونوعيتها في نبع الشاغور سوف تتأثر سلباً، انما مدى هذه السلبية هو موضع جدال بسبب دراسات غير كافية. في ظل اسوأ سيناريو متشائم يحتمل ان يفقد نبع الشاغور الكثير من تدفقه حتى يجف، أو يصبح ملوثا بشكل خطير (اقصى قدر من التأثير السلبي) الى جانب المخاطر الزلزالية في واحدة من اكثر المناطق النشطة زلزاليا في لبنان، كما ان المخاطر المرتبطة بالموقع المقترح ليست مضمونة ولا مبررة (استنادا الى الدراسات التي تمت مراجعتها) خصوصا عندما يكون ممكنا ان تكون تكلفة وتأثير البدائل لتحقيق نفس الاهداف اقل، ولكن للاسف غير مستكشفة".
اعتماد دراسة غير مصدقة!
ولفت شاهين إلى انه "وصلنا رد من مجلس الانماء والاعمار وهو الجهة المنفذة والمشرفة والمسؤولة، اعترض فيه على دراسة الجامعة الاميركية، واستند الى ملخص دراسة أعدها الخبير بهزاد حكيم مكلف من مكتب نزيه طالب للهندسة وغير مصدقة من مكتب الأخير".
والجدير بالذكر ان ملخص الدراسة اقر بان الدراسات الماضية غير كافية وطلب إجراء عدة دراسات لاستكمال المعطيات وهي نفس النتيجة التي أشارت اليها دراسة الجامعة الأميركية.
تمكنت بلدية حمانا من إيقاف العمل بالمشروع مؤقتا، بعد أن سلكت القضية طريقها الى القضاء، ويؤكد شاهين "اننا لن ندخر جهدا في نضالنا ضد انشاء السد على حرم نبع الشاغور وليس على انشائه في منطقة القيسماني".
وتسابق بلدية حمانا وأهالي وسكان البلدة وجمعيات بيئية الوقت، وتعمل في مواجهة كل محاولات التعمية، بعد صدور قرار مجلس شورى الدولة بوقف أعمال إنشاء السدّ في حرم نبع الشاغور، ويبدو أن هذا القرار دفع البعض إلى "تطييف" هذه القضية، وهذا أمر مجافٍ للحقيقة، بكون حمانا تمثل نسيجا اجتماعيا متنوعا، لكنه يحمل دلالات تؤكد أن ليس لدى المتحمسين للمشروع حججا يمكن أن يأخذ بها القضاء، إلا أن ثمة مخاوف قائمة من أن تتغلب السياسة والمصالح في الصراع القائم.
استرداد مياه الشركات
مصادر بيئية متابعة، من حملة حقنا في المياه والطاقة التي انطلقت العام الماضي، جددت موقفها النقدي من مشاريع إنشاء السدود عامة ومشروع سد القيسماني خاصة، معتبرة ان لا ضرورة لهذا السد، واذا كان هناك من حاجة إضافية لمد القرى المجاورة بالمياه، فعلى الجهات المعنية ان تبحث عن البدائل الطبيعية المتمثلة بينابيع المنطقة الكافية، اذا أحسنت إدارتها، او بالآبار التي بيعت مياهها الى شركات خاصة في منطقة فالوغا التي تستثمر فيها شركات خاصة عملاقة لتعبئة المياه. وسألت المصادر: اذا كان هناك حاجة إضافية للمياه، فما هو الأولى، إنشاء سدود بأكلاف خيالية وتعريض ينابيع المنطقة لمخاطر الجفاف او التلوث، ام استرداد مياه الينابيع والآبار من شركات تعبئة المياه التي توزعها وتبيعها في لبنان وخارجه وإعادة توزيعها للناس؟