"غدي نيوز" – تحقيق صفا ليّون حجّار
هي واحدة من الحرف التقليدية الأكثر انتشاراً في العالم. ومن أقدم الصناعات التي ارتبطت بوجود الإنسان والتي ما زالت تصارع من أجل الإستمرار والبقاء بالرغم من المراحل الصعبة التي مرّت بها عبر الزمن.
صناعة الفخار، حرفة لا يوجد تاريخ ثابت لبدايتها، فهي من الحرف الشعبية القديمة جداً، وقد أثبت ذلك ما دلّت إليه الحفريات والتنقيبات التي تمّ اكتشافها في العديد من المدن الأثرية القديمة، وهي عبارة عن قطع فخارية، يرجع تاريخ بعضها إلى الألف الرابع قبل الميلاد.
ولما كان الفخار يمثّل قديماً الأواني البدائية للإنسان في استخداماته المنزلية، كأواني الطعام والجرار الكبيرة لتخزين المواد الغذائية والأباريق والأكواب، فقد كانت صناعته تتطوّر وفقاً لتلك الإحتياجات. ومع تطوّر هذه الحرفة، أخذت تتحوّل إلى فن معقّد ينتج التحف المزخرفة التي تحتاج إلى يد فنّان خبير، وأصبح بإمكاننا اليوم أن نميّز بين نوعين من الفخار، الأول يتعلّق بكل المقتنيات المنزلية، بينما يُعْنى الثاني بالتحف والأشكال الخزفية الفنية، وإن كان النوعان يسلكان الطريق ذاتها من حيث استخدام المواد الأولية.
صناعة الفخار في لبنان
أما بدايات هذه الحرفة في لبنان، فتعود إلى الألف الثامن قبل الميلاد، نظراً لمواكبة شعبه الحضارات الإنسانية وتأثره بها، وانطلاقاً من طبيعة أرضه، ولا سيما في مواقع جغرافية متعددة، ولتميّز التربة الموجودة في تلك المواقع، والتي تصلح في استخدامها كمواد أولية لهذه الحرفة.
ومنذ ذلك الزمن مرّت صناعة الفخار في لبنان بمراحل عدة، أدّت إلى تطوّرها، وتميّزها في كل منطقة بحسب توفّر المواد الأولية تلك ولوازمها المتعددة. وقد وصل الأمر إلى أن بعض المناطق اللبنانية، بات متلازماً مع كلمة الفخار نتيجة اشتهارها به، كما هي الحال مع منطقة "راشيا الفخار" في البقاع الغربي، والتي لا تزال هذه الصناعة فيها تعتمد على الطرق البدائية، لكنها تتميّز بجودة عالية. ومن المناطق اللبنانية الأخرى التي ما زالت تشتهر بصناعة الفخار، قرية آصيا (قضاء البترون) شمالي لبنان، وكذلك قرية بيت شباب (قضاء المتن) والتي تشهد استمراراً خجولاً لهذه الحرفة، وكذلك قُرى: جسر القاضي، دير كوشة وبشتْفين (قضاء الشوف).
إذاً صناعة الفخار بقيت على قائمة الحرف التقليدية في لبنان، فتنافست القرى اللبنانية على إنتاجه، وتميزتْ إحداها عن الأخرى، وتنوّعتْ المنتوجات وتعدّدت الأشكال والزخارف والإبداعات الفنية، وكانت بمثابة مهنة تراثية يتناقلها الأبناء عن الآباء والأجداد، ويضيفون إليها من لمساتهم وإبداعاتهم، وهذا ما وفر لها الإستمرار إلى يومنا هذا، وإن بشكل خجول جداً، بسبب ما تعانيه من إهمال، أدّى إلى تغييبها في بعض الأماكن.
وبسبب التطوّر والحداثة اللذين كان لهما تأثيراً سلبياً على مثل هذه الصناعة التقليدية، والذي وصلت تبعاته إلى لبنان، حيث بدأت الصناعات الحرفية التقليدية تشهد تراجعاً ملحوظاً لصالح الصناعات الحديثة ومواكبة العالم لموجبات التصنيع الإلكتروني، بدأ الركود يشوب صناعة الأواني الفخارية ، وصار العطاء المستمر من قبل الحرفيين ينضب ويتوارى شيئاً فشيئاً، حتّى بدا واضحاً وجليّاً منذ العقد الثالث للقرن الماضي، وبقي عدد بسيط من أولئك العمال المهرة يجابه ويحارب من أجل بقاء حرفته وحرفة أجداده.
الفخار فن وحرفة
وللدخول أكثر في تفاصيل هذه الحرفة، والتعرف إلى طرقها، ومراحل تطوّرها، وتصريف إنتاجها، ومردودها المادي، ومطالب الحرفيين القلائل، ومعاناتهم، وعن مدى الإهتمام الشعبي والرسمي بهذه الحرفة، زار "غدي نيوز" بلدتي جسر القاضي ودير كوشه في قضاء الشوف، وقصدنا إثنتين من أهم "الفاخورات" هناك، وكان لقاء مع كمال دبيسي وخالد ضو.
بداية، تحدث الدبيسي، وهو من أقدم "الفاخوريين" في المنطقة، وكان قد افتتح مصنعه منذ العام ١٩٢٧، وكان مقصد الكثيرين من الأهالي والتجار، حيث كانت تلك الفاخورة السباقة في لبنان، التي خرجت عن صناعة الفخار العادي المألوف، لتخطو نحو عصر الخزف الملوّن ولتصبح ذات جودة عالية تضاهي الخزف الأوروبي المستورد، وتمتاز عنه بأنها من صنع اليد.
دير كوشة وأول فاخورة
عن تاريخ هذه الحرفة في المنطقة، وحول بداياته في المهنة وأسرارها وتطورها، قال دبيسي: "صناعة الفخار في لبنان من أقدم الصناعات التي نشأت في القرون الماضية، وما زالت تحارب من أجل الإستمرار في عالم الحداثة. أما تاريخها في منطقة الشوف فيعود إلى منتصف القرن الثامن عشر للميلاد، حيث نشأ أول مصنع في قرية دير كوشة الشوفية المجاورة لقرية جسر القاضي، وكان بدائيّاً جداً، وفي مطلع العام ١٩٢٧، بدأت بالإنتشار المحدود في منطقة الشوف حيث كان مصنعنا في قرية جسر القاضي، وأخذت تنمو مع زيادة الإقبال على استعمالها، خاصة في الأربعينيات على أثر قيام الحرب العالمية الثانية، حيث بلغ عدد المصانع نحو أربعين "فاخورة" إنتشرت في القرى الشوفية الثلاث: جسر القاضي، دير كوشه وبشتفين، وتعدّى تصريف الإنتاج لبنان، ليصل إلى البلدان المجاورة، ولا سيما سوريا الأردن وفلسطين".
"عجينة" الفخار
ويتابع الدبيسي: "مع بداية الخمسينيات، بدأت هذه الحرفة بالتقهقر والتراجع إلى أن أصبح عدد الفاخورات الموجودة في مطلع الستينيات لا يتجاوز السبعة مصانع، وتراجعت أكثر، وأصبحت في يومنا هذا لا تتعدى الأربعة أو الخمسة، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أن العامل الرئيسي لوجود هذه الحرفة في المنطقة، هو وجود التربة الصالحة لهذه الغاية، فمنطقتنا شحّارية يتواجد فيها (الدلغان) بكثرة، وهو الأساس لـ "عجينة" الفخار التي تستخرج من الأرض، وتوضع في برك خاصة، و(تُصوّل) بالماء حيث يقوم عامل بتحريكها باليد حتى تذوب، فتوضع حينها في شبه ملاحات كي تجف بحرارة الشمس، وهذه العملية تجري في فصل الصيف، ثم توضع في مستودعات خاصة، وترطّب باستمرار من خلال الماء ليحين وقت إستعمالها، حيث تُدعك العجينة وتعدّل مواصفاتها إذا كان الأمر يقتضي ذلك، وتشكّل القطع وتنظّف، بعدها تُترك نحو خمسة عشرة يوماً لتجف تماماً، وتصبح قابلة للشيّ في فرن كبير (كان قديماً يعمل بواسطة الحطب، أما في أيامنا هذه، فأصبح يعمل بواسطة المازوت)، حتّى يحمرّ لونها، وتصبح غير قابلة للتفتيت وجاهزة للإستعمال".
الفخار الملون
وعن تجربته إدخال الألوان إلى الأواني الفخارية في لبنان، قال الدبيسي: "كنت أسعى طوال فترة عملي لإدخال بعض التغيير على لون الفخار البدائي الأول المعروف باللون البرتقالي، وطلائه من الداخل بطبقة تمنع إمتصاص المادة الموجودة داخل أي قطعة، وظهورها إلى الخارج، كما تمنع إنتقال نكهة الفخار للطعام. وقد سنحَت لي الفرصة بتعلّم هذه التقنية على يد رجل إنكليزي كان يزور منطقتنا، وقد عزّزْتُ هذا الأمر بإدخال كافة الألوان على القطع الفخارية، وكان لي معرضاً في بيروت لمنتجات المصنع، كما كنتُ أشارك في العديد من المعارض داخل وخارج لبنان".
تراث وأصالة
وعن حكايته مع صناعة الفخار، وكيف بدأ مشواره، وما زال مصنعه في ديركوشه، الشوفية، مقصوداً من قبل الأهالي والسياح وتلاميذ المدارس، يقول خالد ضو: "صناعة الفخار تراث يعبّر عن الأصالة والتاريخ المرتبط بالحضارة، وبالنسبة لي هناك روابط عاطفية ونفسية تشدّني إلى هذه الحرفة، فقد كان والدي يمارس هذه الحرفة منذ صغره، وأنا اقتبستُ منه أسرار المهنة وأحببتها جداً لذلك فهي تمثّل لي الحنين إلى الماضي، وهي أكثر من مهنة حرفية بالنسبة لي لأن الجزء الفني فيها هو الأهم، وهو ما يعني لي الكثير، وأكثر من الجزء العملي".
ويتابع ضو: "ان كل عمل مقرون بالمحبة، هو عمل ممتع وناجح"، وعبّر عن شعوره بالرضى والسعادة كلما ابتكر شكلاً جديداً "لأن قطعة الطين بين يدي هي مثل الريشة بين يدي الرسام يحركها كما يشاء، ويبتكر منها في كل مرة فكرة جديدة".
وعبّر عن أسفه لأن "أبناء هذا الجيل لا يعيرون مثل هذه الحرف أدنى اهتمام، وبالتالي فهذه المهنة سائرة نحو الاندثار، وأكبر دليل على ذلك، هو تناقص عدد مصانع الفخار في تلك المنطقة، والذي كان يناهز الستين مصنعاً في فترة الخمسينيات، بينما تراجع إلى الأربعة أو الخمسة مصانع في أيامنا هذه".
وهذه المخاوف ، عبّر عنها الدبيسي أيضاً بقوله: "أرى مستقبل هذه الحرفة على شفير الهاوية، فأبناء الجيل الجديد يرفضون تعلمها ويفضلون الإتجاه إلى حرف ومهنٍ أخرى تحاكي جيلهم. وهذا ما جعل اليد العاملة في هذا المجال نادرة الآن، وهذا أيضاً ما أجبرني على التوقف عن العمل حالياً وخاصة بعد رحيل الرجل الذي عمل في المصنع لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً".
الدولة لا تعترف بنا كحرفيين
وعن تسويق الإنتاج، وما اذا كان المردود المادي كافياً ويؤمّن العيش لمن تبقّى من حرفيين يكافحون في سبيل إبقاء هذه الحرفة على قائمة الحرف التقليدية، وعما اذا كان ثمة إهتمام رسمي من الدولة، قال ضو: "لا بأس بالمدخول المادي، ما زال يكفي احتياجات العائلة، لكن يصبح المدخول أفضل بكثير لو إن هناك اهتماماً ورعاية من الدولة. فالدولة أساساً لا تعترف بنا كحرفيين، وليس من وزارة مسؤولة عن هذه الحرفة، وقد تقدمنا بعدة شكاوى لعدة وزارات، ولم نلق آذاناً صاغية فنحن لا نملك رخصة عمل ولا رخصة نقل إنتاج، وليس لدينا ضماناً صحياً. وعندما نطالب بأي حق من حقوقنا يطالبوننا بمستندات لا نملكها. نحن أبناء حرفة، كالرسّام والنحات والخياط، واستمرارنا مرهون بجهودنا الشخصية وإمكاناتنا المادية".
قيمة فنية
وعن تصريف الإنتاج قال ضو: "بالرغم من تزايد صناعة وإنتاج الفخار من عدة دول أوروبية والصين وغيرها وبتقنية متطوّرة، إلا إنه بقي للفخار المصنوع يدويّاً رونقه الخاص، وميزاته العديدة، فالخطوط التي تبدو على سطح قطع الفخار اليدوية لها قيمتها الفنية العالية".
وأشار إلى أن التصريف يتركّز على دول الخليج والإمارات بشكل عام، وأحياناً الكويت والسعودية، إضافة إلى السوق المحلية التي تنشط أكثر في فترة الصيف حيث يكثر السياح والمصطافون".
المطالبة بفتح أسواق خارجية
وكان رأي الدبيس مخالفاً بالنسبة للمردود المادي، فهو غير كافٍ بالمقارنة مع الجهد المبذول والتكاليف الكثيرة، وطالب الدولة بخفض ضرائب الجمارك على الدهانات المستوردة وخفض أسعار المازوت أو تأمينه بالحد الأدنى، لأن أفران الفخار تعمل بواسطة المازوت، كما طالب المعنيّين بفتح أسواق خارجية لتصريف الإنتاج والحد من دخول البضاعة المماثلة من البلدان المجاورة والتي أثّرتْ على سوق الفخار في لبنان في المدة الأخيرة. وأضاف: "نريد التشجيع من الدولة والدعم المادي، حتى لا تنقرض هذه الحرفة، التي تتلاشى شيئاً فشيئاً لعدم تمكن القلة المتبقية من الاستمرار في مزاولتها لضعف إمكاناتهم المادية".
ليس هناك أبدع من شيء تصنعه بيديك، وتسجّله بمشاعر وأحاسيس صادقة نابعة من أعماق قلبك، فتكون دلالته إنسانية، تاريخية، تراثية، فنية وعريقة، تخبر عن الماضي الذي كان، وتؤسس لمستقبل مشرق.
وهكذا ألقينا الضوء على إرثٍ من عمق التاريخ، نأمل استمراره، فهل نستفيق ونحمي ما لدينا، أم نكرّم المهنة بعد وفاتها؟