fiogf49gjkf0d
''غدي نيوز''
إذا كان الهدف من السفر هو تحدي أنفسنا، إذن من الطبيعي أن نتوجه إلى أكثر المقاصد "صعوبة"، مثل الهند. ليس لتغيير شعبها، ولكن لكي نغير أنفسنا نحن.
زرت الهند للمرة الأولى قبل عشرين عاماً، وكنت مصمماً على تغيير تلك البلاد. لم أكن أرغب في تغيير كل شيء يتعلق بالهند، ولكن فقط الجوانب التي أرى أنها مثيرة للإحباط حقاً.
ومن تلك الجوانب على سبيل المثال الازدحام في محطات القطارات ومواقف الحافلات العامة، وقيادة السيارات التي لا تلتزم بقانون ولا تراعي أي تعليمات، وعدم الالتزام بالمواعيد، والاجابات غير القاطعة، فكلمة لا قد تصبح نعم.
ولما كنت مصرا على تغيير كل ذلك اعتبرت نفسي مصلحاً، وذهبت إلى مهمتي بحماس الساذج.
المصلحون لا يعمرون طويلا في الهند. دائما ما تراهم يحزمون حقائبهم، ويشتكون من كون الهند مكاناً مستحيلاً. أما الذين يقبلون بهذا الوضع في المقابل، يعلمون أن حضارة الهند قديمة ولن تتغير لمجرد أن بعض من يرتدون سراويل فضفاضة ويحملون كاميرات يريدونها أن تتغير.
وصلت إلى الهند مصلحاً وغادرتها متقبلاً لكل ما فيها. أدركت أن الهند لن تنحني، أنا من كان عليه أن ينحني. ومن دون ذلك قد أعاني من الانكسار، أو أسوأ من ذلك، العيش بدون الدروس التي تعلمنا إياها الهند.
أعظم هذه الدروس هو ما يمكن أن نطلق عليه فن "لا تشغل بالك" وعدم التوقف كثيراً عند العديد من الأمور.
وهذا يعني أولاً وأخيراً، ترك التوقعات. يعرف الهنود بعض الأشياء عن هذا الأمر. ففي كتاب "باغافاد غيتا" (أو الأنشودة السماوية)، وهو كتاب مقدس عند الهنود، يقول الإله كريشنا مخاطبا آرجون ما معناه: "ابذل 100 في المئة من الجهد لتنفيذ المهمة، لكن لا تبذل أي جهد في توقع النتائج"، هذا أمر بالطبع يصعب علينا استيعابه.
عادة، تتناسب توقعاتنا طردياً مع حجم الجهد الذي نبذله، وغالباً مع حجم الخيبة التي نمنى بها إن لم يتحقق ما توقعناه.
أعتقد أن المسافرين إلى الهند يحتاجون للأخذ بنصيحة كريشنا.
عليك أن تزور الهند من دون توقعات عالية، أو منخفضة، ولكن بلا توقعات على الإطلاق، لا تفكر في أن تتوقع أي شيء، لا تشغل بالك وتتوقف عند التفكير في التوقعات.
وقد مررت بنفسي بهذه التجربة في مدينة كلكتا مؤخراً. كنت أجري بحثاً لكتابي الجديد، كان لدي جدول توقعت أن ألتزم به وأحافظ عليه.
وكانت لدي خطة توقعت أن أنفذها كما هي، لكن لم يصمد أي منهما لفترة طويلة أمام الواقع هناك.
بالنسبة للمغتربين الجدد في الهند، يعد ذلك موسم الرياح والأمطار الموسمية، وهو ما يعني انقطاع أطول للتيار الكهربائي، وفوضى مرورية أكثر من المعتاد. وعندما وصلت إلى الناس في نهاية الأمر، وجدتهم ولم أجدهم أيضا. لقد وجدت نفسي عالقاً أعاني عذاب الرطوبة هناك.
تعاطف معي موظف الاستقبال في الفندق، وأشار إلى أن الكلمة الهندية المقابلة لكلمة غداً تعني بالضبط ما تعنيه كلمة أمس.
بدأت أشعر أن علي التخلي عن توقعاتي الصارمة بخصوص الوقت كشيء لا يمكن تغييره. واحتجت للتخلي عن وهم الضبط والتحكم في الأشياء.
ليس ذلك بالأمر السهل بالطبع أن يستمر احساسك بأن الضبط والالتزام بالوقت مجرد وهم.
نحن نستخدم المواصلات للوصول إلى العمل، وندفع فواتيرنا، ونطهو طعامنا، ونعم نذهب في عطلات، مقتنعين أن لأفعالنا هذه نتائج، وأنك إن قمت بأحد هذه الأمور بشكل صحيح فإن ما يسبقها من أمور وما يتلوها من خطوات تكون أيضاً صحيحة.
لكن في الهند يعتبر هذا التفكير مجرد وهم. أي محاولة للسيطرة على تقلبات القدر أو البيروقراطية أو أي شيء آخر ستكون غير مجدية.
مع مرور السنوات، تعلمت أيضاً أنني أحتاج إلى أن أتخلى عن فكرة "أنني أفهم طريقة الحياة في الهند".
في كلكتا، على سبيل المثال دخلت إلى متجر للكتب، ليس أكثر من غرفة صغيرة متهالكة في الواقع، ورأيت الفوضى تضرب أطنابها من الأرضية إلى السقف، وقد تكدست الكتب فيه بلا أي نظام يذكر.
رغم ذلك، عندما سألت عن عنوان لكتاب محدد، رواية تاريخية عنوانها "ذوس دايز" (تلك الأيام)، جلبها لي صاحب المتجر بسرعة ومن دون جهد.
أدركت الآن أن الهند كلها تشبه هذا الوضع، الفوضى والنظام في وقت واحد وجنباً إلى جنب. فكر كيف يحضر صانع الشاي كل كوب من الشاي تماماً بذات الطريقة، أو الطريقة التي يقود فيها سائق العربة عربته عبر زحام وسائل المواصلات.
كما لاحظ الاقتصادي البريطاني جون روبنسون: "أي شيء يمكنك أن تقوله بشكل صحيح عن الهند، العكس أيضاً صحيح".
ربما أراد روبنسون أن يقول شيئاً محدداً، لقد قيل إن أحد علامات الصحة العقلية هي أن يكون باستطاعتك الاحتفاظ بفكرتين متناقضتين بدون أن ينفجر دماغك.
بهذا المقياس، تعتبر الهند أكثر بلد يتمتع بالصحة العقلية في العالم. وهذا بالطبع ليس هو واقع الحال. الحقيقة هي أن الهند قاسية، وأن هذه القسوة هي التي تجعلها جذابة (بالطبع فكرتان متناقضتان).
لكن إن كان الهدف من زيارة الهند هو أن نتحدى أنفسنا، لنكتشف طريقة جديدة في النظر إلى الأمور، كما يقول هنري ميلر، إذن من الطبيعي أن نسعى لزيارة أشد الأماكن قسوة، ليس بهدف تغييرها ولكن لتغيير أنفسنا.
يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel.