fiogf49gjkf0d
''غدي نيوز''
قبل مئات السنين، كانت «المشاحر» حاجة لا يمكن الاستغناء عنها، فقبل ظهور النفط كانت كل عائلة أو مجموعة من العائلات «تبني» مشاحرها ولم تتأثر المساحات الخضراء من حيث رقعتها واتساعها، ولم يكن ثمة تلوث ناجماً عن أدخنتها بقدر ما نواجه اليوم من عودام أكثر من مليون سيارة، ناهيك عن المصانع ومحطات توليد الكهرباء وغيرها...الخ
وكان الفحم في المناطق الوسطى والساحلية وسيلة التدفئة الوحيدة، حتى أن المنازل القديمة كان يراعي المواطنون في بنائها ترك كوة لتجديد الهواء، منعاً من الاختناق بأول أوكسيد الكربون.
كانت المشحرة جزءاً من نمط حياة، تُرصف أعوادها وسط طقوس احتفالية، بخبرة متوارثة، وتبنى بشكل مخروطي، وتغطى بعد ذلك بالتراب وتضرم بها النار من ثغرة تتيح الاحتراق البطيء، ويتصاعد الدخان من التراب المغلف بها. وبالرغم من أن صناعة الفحم كانت تتخطى حدود الاستهلاك المنزلي، حيث كان يصدّر إلى المناطق الساحلية، من خلال وسائط نقل بدائية، إلا أن أجدادنا كانوا يراعون الاستدامة، أكثر من برامج تعدها مراكز الأبحاث، فكانت حياتهم لصيقة بالأرض، يخصصون الأغصان الناجمة عن التقليم لـتأمين مستلزمات المشحرة والتدفئة. فالغصن المستقيم من دون عقد يذهب إلى المشحرة، وباقي الأغصان والفروع الكبيرة خصوصاً تخصص لمستلزمات التدفئة، ويكنسون الأحراج ليستفيدوا من مخلفاتها في المواقد التي كانت تتصدر كل بيت. وكان الحطب الذي يستخدمونه خليطاً من «الوزال» والشجيرات التي تنمو بين الأحراج، ويحتطبون منها لتأمين مسارات دائماً للولوج إلى الأحراج، وتنظيفها والإفادة منها، ولا تكون بالتالي وقوداً لنيران الحرائق التي كانت شبه معدومة.
أصحاب الأحراج والمستثمرون
المشكلة في مداها القائم حالياً في العديد من المناطق، تتمثل في من يضمنون أحراج السنديان، وهؤلاء، بحسب أياد المشطوب (مزارع وتاجر من رأس المتن) «لا يراعون الاستدامة وهمهم استثمار الأشجار بما فيها تلك الصغيرة». وقال: «إن هناك مراقبة جديدة من مأموري الأحراج، وتراجعت أعمال «حلق» الأحراج، أي قطع الأشجار عن بكرة أبيها، لكن في مناطق خارج المتن الأعلى ما يزال هذا الأسلوب قائماً، والأشجار التي تقطع تكون بحاجة لعشرين سنة لتعود أشجاراً بالغة، فيما تقليمها والإفادة منها، تكون له نتائج مهمة لجهة استعادة نموها على نحو أكبر، فضلاً عن أن التقليم ضروري لنمو الأشجار»، لافتاً إلى أنه «يمكن الاستفادة من (التفريد) أي قطع الأشجار التي تعيق نمو أشجار صغيرة».
وأكد المشطوب أن «إجراءات وزارة الزراعة مهمة ولكن غير كافية، إذ لا يمكن لمأموري الأحراج مراقبة مساحات ومناطق شاسعة». ورأى أن «الحل يكون بمراقبة المستثمرين وليس أصحاب الأحراج، فهم ضنينون على كل شجرة في أملاكهم، وبعضهم يعتبر هذه الأشجار بالنسبة إليهم مصدر رزق، ويراعون الاستدامة لبقاء هذا المصدر، والمشاحر لا تكون في هذه الحالة على حساب الغطاء الأخضر، لا بل العكس، فبعض هؤلاء يزرعون أغراساً جديدة ويتابعونها».
الحياة العصرية أفسدت الناس
غالباً ما يتخفى المعتدون على الأحراج، ويتسلحون بنواب ومتنفذين، ففي قضاء المتن على سبيل المثال، هم أحياناً فوق القانون، وتم تسجيل أكثر من واقعة عندما بادرت القوى الأمنية إلى مصادرة حطب المشاحر، إلا أنه، وبحسب مواطن من ترشيش آثر عدم ذكر اسمه، فإن هؤلاء يعمدون إلى التسلل الى الأحراج عبر ممرات ضيقة، ويقومون بأعمال قطع الأشجار والتفحيم، ولا يمكن اكتشافهم إلا من الجو».
وفي هذا السياق، أكد منعم نعيمة ابن التسعين عاماً أن «المشاحر شرط أساس لتجديد الأحراج والغابات»، وقال في مقاربة بسيطة وعميقة في آن «الحرج مثل شعر رأسي تماماً، ينمو أكثر كلما قصصته».
ويقدم نعيمة بعضاً من تجربته ويستحضر مقاربات بسيطة، هي نتاج تجربة ترقى لأجيال توارثت مفاهيم باتت بعضاً من نمط حياة، قبل أن يطغى عليها جشع التجار واللاهثين خلف المال على حساب كل ما هو حي.
يتحدث أبو جورج بعفوية المزارع اللبناني، بعيداً من دراسات لا يمكن أن تكون ناجعة وبعيداً من مفاهيم التنمية وديمومة الحياة وتجددها، وهو يرى أن «الحياة العصرية أفسدت الناس».
و«التفحيم» بحسب فريحة «ضرورة لتنظيف الأحراج وتجديدها»، ويضيف: «إذا قطعنا غصناً من شجرة سنديان أو ملول فبعد عشر سنوات أو أقل يغل (ينمو ويكبر) أكثر، وبدلاً من الغصن الذي قطعناه تنمو ثلاثة وأربعة أغصان وأحياناً أكثر».
ويضيف: «قاربت التسعين من العمر، وأنا، ولكيلا أُفهمَ خطأ، ما أقوله ليس دفاعاً عن المشاحر، بل أدافع عن الأحراج وحسن إدارتها، ومن حرصي على الأرض أكثر من صاحبها، فمنذ مئات السنين وأجدادنا استخدموا المشاحر، وكانوا ضنينين أكثر من اليوم على كل شجرة لأنها سبب وجود الإنسان فيما تغدق عليه من خيرات، لكن مَن يبحثون عن الثروة والكسب السريع شوهوا كل شيء، وهم ليسوا أصحاب أحراج ولا حطابين حقيقيين، هؤلاء تجار لا ينظرون إلى الشجرة بأنها ثروة لأبنائهم».
ويقول نعيمة: «منعوا الماعز من الرعي فما عاد بمقدورنا الوصول إلى أحراجنا بسبب (الهشيم)، وكثرت الحرائق وأتت على أشجار بكاملها»، وتساءل: «لماذا نقلم شجرة الصنوبر كل ثلاث سنوات؟»، وأضاف: «بكل بساطة لأننا إذا لم نقلمها فبعد أربع سنوات تيبس من الإهمال».
تنظيف الأحراج
وقال: «أحضروا الفحم من الخارج (ليملأوا جيوبهم وليس حباً بالبيئة)، وكان الضرر الذي طاولنا من أخطر ما واجه اللبنانيين لأن الفحم كان عبارة عن منتج سيئ من خشب أعمدة كهرباء تحتوي مادة تتسبب بسخام لا يمكن تحمله».
ولفت نعيمة إلى أن «مستلزمات المشحرة نحصل عليها من أشجار السنديان والملول والبطم، فالأغصان الكبيرة تباع للتدفئة والصغيرة تستخدم في صنع وبناء المشحرة»، ويضيف: «نشعل منقل فحم السنديان يبقى لثلاث ساعات، وهناك من كانوا يستخدمون منقل الفحم في التدفئة، وإذا تفقدت الأبنية القديمة فتجد أن في كل غرفة هناك فتحة في أعلى الجدار، لأن آباءنا وأجدادنا كانوا يستخدمون الفحم، وكانوا يتركون هذه الفتحة للتهوئة، لان الفحم ينتج غازاً (أول أوكسيد الكربون) يتسبب بالاختناق إذا كانت الغرفة محكمة الإغلاق، صحيح أن هذا الغاز يضر ولكن ليس بمقدار الضرر الذي يلحق بنا اليوم إذا ما انتشر دخان مدفأة المازوت مع كل هبة ريح؟».
يبدأ موسم التفحيم بين تشرين الأول وتشرين الثاني ويستمر حتى شهر نيسان (أبريل)، وتشرف وزارة الزراعة على الغابات من خلال مأموري الأحراج، وفي مجال تقليم الأشجار يقول نعيمة: «مأمورو الأحراج يقومون بعملهم ويعطون تراخيص شرط إبقاء طرود في كل جذع شجرة ما يؤمن نمو الطرود لاحقاً، ونحن في الوقت عينه نقوم بتنظيف الحرج والاستفادة من الأغصان الناجمة عن التقليم، والآن هناك أصحاب أحراج لا يستغلون أحراجهم ويدفعون المال لقاء تقليمها وتنظيفها من (الوزال) و(الجربان) وغيرها من النباتات والشجيرات ويقومون بتقشيشها، وليس هناك أغلّ من الحرج».
ولفت إلى أن «مأموري الأحراج يحددون ما يجوز قطعه، وبعد فترة يقومون بالكشف مرة ثانية، وإذا كانت ثمة مخالفة يسطر محضر ضبط، ولدينا في المتن الأعلى ثلاثة من مأموري الأحراج من (أوادم الناس)».
تبقى «فلسفة» العم أبو جورج سبيلنا الأمثل لإدارة ما بقي من أحراج وغابات، وفيها دعوة للعودة إلى الأرض واستعادة العلاقة بها، بعيداً من مفاهيم الكسب السريع، وثقافة الاستغلال من دون مراعاة التجدّد والاستدامة.
أنور عقل ضو
السفير