"غدي نيوز"
كتب جوزف طانوس الحاج في النهار يقول: حين كان لبنان لا يضمّ أكثر من مليون نسمة على مساحته المعطاء، يعيشون في نمط ريفيّ متواضع، كانت المصادر المائيّة فيه، المتفجّرة ينابيع وعيوناً، تبدو أكثر من كافية.
إلاّ أن المتنوّرين عِلميّا، و الباحثين في الزمن الآتي الى عقود وعقود، لم يخفوا تخوّفَهم من تراجع حصة الفرد من المياه، مع تزايد عدد السكان (وليس اللبنانيّين فقط) وتطوّر أنماط الحياة. لذلك، فقد اقترحوا وخطّطوا لإنشاء سدود على مَجارٍ مائيّة عدة، على أمل أن تعوّضَ النقص المتراكم، وتمنع إهدار المياه السطحيّة المقدّرة بملياري متر مكعّب سنويّا.
لقد ورد اقتراح إنشاء سدّ بسري في دراسات ابرهيم عبد العال في خمسينات القرن الماضي، وبدأت مذذاك عمليّات المسح الجيولوجي والهيدرولوجي مع خبراء محلّيين ودوليّين في هذا المجال. والدراسات الموجودة في أدراج مصلحة مياه الليطاني هي أكبر دليل على مدى جِدّية هذا العمل.
أمّا اليوم، وقد بلغنا مرحلة متقدّمة من التنفيذ، فالغريب أن أصواتا كثيرة بدأت تعلو منبّهةً من مخاطر ومساوئ إنشاء هذا السدّ، ومحذِّرة من المضيّ في العمل، ضَنّاً بالصّحة العامة، والتوازن البيئي، والاستقرار التكتوني...
إن الدراسة الهيدروجيولوجية التي قمتُ بها، ما بين العامين 2002 و2007، والتي نلت بموجبها شهادة الدبلوم – دراسات عليا، من الجامعة اللبنانية، تسمح لي بأن أُبديَ رأيًا في هذا المجال، مرتِكزًا على بحوث وتقارير، نُشرت من قِبل مراجع، لا لُبسَ فيها. لذلك، أقول:
أولاً: المواضيع المتداوَلة إعلاميًّا:
1- في ما يخصّ الحركة التكتونيّة:
يتلازم الكثير من مجاري الأنهار، في معظم المناطق اللبنانية، مع خطوط الفوالق والكسور، كونها الأضعف في التركيبة الجيومورفولوجية. وهكذا نرى أن بين الفالقين الرئيسيّين، اليمّونة وروم، هناك العديد من الكسور العَرضيّة، والمطابقة لمجاري أنهار السلسلة الغربية أو محاذية لها.
من جهة أخرى، إنّ حركة الزلازل والهزّات الأرضيّة، ترتبط بشكل حتميّ، بعوامل الضغط الداخلي لجوف الأرض. فالأثقال التي سوف يضيفها السدّ وما يجمعه خلفه من مياه، قد لا تشكّل 1% من الضغط الداخلي. وما جرى في أماكن عدّة من العالم، لم يكن سوى بعض الارتجاجات البسيطة التي لا تكفي لتعميم نظرية العلاقة الطردية بينهما. ولدينا تجربة ناجحة في بحيرة القرعون التي لا تبعد أكثر من كيلومترين اثنين عن فالق اليمّونة، الأكثر ديناميّة من فالق روم.
2- في ما يخصّ التلوّث:
السدّ غير مسؤول عن التلوّث الذي يثير الرعب لأبناء بيروت المستفيدين الأوَل من هذا المشروع. فتلوّث مياه الليطاني والقرعون والأوّلي... وغيرها، هو كناية عن مجموعة مشاكل إدارية، وعلمية، وأخلاقية... تفرض إيجاد الحلّ الجذري والمناسب لها، وليس إلغاء الحلول المقترحة.
حين تخرج ينابيع الباروك، وجزين وعزّيبه... وغيرها، من جوف الأرض، تكون نسبة التلوّث بأقل معدّلاتها، وتكاد تكون المياه المتدفِّقة خاليةً من أيّة مواد كيماوية وبكتيريا قاتلة. ولكنْ، ما إن تعبر هذه المياه البلدة الأولى والثانية وتختلط بمياه المجارير غير المعالَـجة، فإنّها تصبح نهرًا من السموم، تزداد خطورته كلما ازداد عدد الملوّثين.
3- في ما يخصّ الآثار:
بين ليلة وضحاها، يستفيق اللبناني على ستين (60) موقع أثريّ في مرج بسري... يُذكر منها ثلاثة وأربعة للدلالة العلميّة الموثّقة، وما خَفي يبقى في مرحلة الاستكشاف وعلم الغيب. نعم، الأعمدة الرومانيّة، وكنيسة مار موسى والأقبية المجاورة ... وغيرها، يجب المحافظة عليها، "برموش العين"، ولكن ألا نستطيع أن نحافظ على هذه القيمة الأثرية، الى جوار الاستثمار العلمي للثروة المائية؟...
ثانيًّا: الحلول المقترحة:
1- في ما يخصّ الخطر الزلزالي:
يعود الرأي النهائي، كما في العديد من الحالات المشابهة، للمهندسين المدنيّين والهيدروجيولوجيّين، أن يقرّروا مستوى ملاءمة الواقع على الأرض مع شروط السلامة العامّة. فلهُم وحدهم أن يقولوا إن تأثير السدّ على ثِنية روم هو خطرٌ أم لا.
ولهُم وحدهم أن يقولوا إن ديناميّة الكسر العرضي بين باتر وبسابا، سوف يدمّر بناء السدّ مهما عظمت متانته، وتفوّقت مواصفاته.
وهنا لا بدّ من التنويه، أنّ مجلس الإنماء والإعمار قد استفاض بالحديث والشرح عن هذه المشكلة، مستندًا الى دراسات ومعطيات علميّة غير قابلة للجدل.
2- في ما يخصّ التلوّث:
لقد دقّ ناقوس الخطر، و"بعبع" التلوّث، أبواب المسؤولين جميعًا في الدولة وفي البلديّات واتحاداتها... ولم يعد مسموحًا أن تسيبَ المياه العذبة، وتُنتهك حرمة المجاري العامة، وأن يكتفي سكّان المناطق العليا بإنشاء شبكة للمجارير، والتخلّص منها في أقرب مجرى ماء... حتى لو كان بالوعة، كما يجري في إحدى المناطق الجزّينيّة.
الحلول عديدة، والأمثلة كثيرة، في أوروبا كما في غيرها... المهمّ أن نبدأ بطرق علميّة وصادقة. وورشة التنظيف التي بدأت حملتُها في البقاع هي مؤشّر إيجابي، يُبنى عليه...
3- في ما يخصّ الآثار:
هناك وزارة للثقافة، ومن مهماتها حماية الآثار، وهناك أيضًا ناشطون وجمعيات...
الباب مفتوح لأصحاب الكفاءات والاختصاصات، لوضع خطة واضحة، وكفيلة بالحفاظ على الإرث الوطني.
وقد يكون بين الاقتراحات، نقل هذه الآثار الى مواقع قريبة من مشروع السدّ، حيث يتمّ المحافظة عليها، وتصبح جزءًا من بانوراما الاستثمارات الجديدة والمتنوّعة.
أخيرًا، أنا ابن هذه المنطقة، الغالية جدًّا على قلبي، وأحلم بأن تكون على سِكّة التطوّر الصحيح، والمفيد...
إن استمراريّة وجود اللبنانيّ بأرضه، تتطلّب سياسة حكيمة وهادفة و... إنتاجيّة. صحيح أن الخدمات هي مورد القِرش السريع، ولكن القطاعات الانتاجية (الزراعة والصناعة) هي دعامة الاقتصاد المستدام. فلنسعَ جميعنا الى مشاريع منتِجة، تزيد من مناعتنا الاقتصادية والاجتماعية... والوطنيّة.