Wednesday, February 26, 2020
بعد مشاهدته للمرة الأخيرة في جبل المكمل في لبنان عام 1958، الدب البني السوري يعود للظهور من انقراض مفترض
"غدي نيوز"
مرّ 61 عامًا على انقراض الدب البني السوريمن البرية اللبنانية، والذي يُعَد إحدى سلالات الدببة البنية، واسمه العلمي Ursus arctos syriacus، إلا أن الأخير عاد وظهر مجددًا في جرود (أرض جرداء تابعة لبلدة عرسال، وتقع على بُعد 122 كلم شمال شرق بيروت، وهي بلدة مستقرة على أطراف السلسلة الشرقية لجبال لبنان على الحدود مع سوريا) في أواخر شهر ديسمبر 2019. وكان عدد من مقاطع الفيديو قد كشف عن أن أعدادًا قليلة من هذا النوع من الدببة لا تزال تعيش في المنطقة الحدودية بين لبنان وسوريا، وفي شمال العراق أيضًا.
آخر مقاطع الفيديو التي التقطت صورًا لهذا النوع النادر من الدببة المفترض انقراضها، كان مقطعَ فيديو جديدًا التقطته عدسة حسان عياش، الأكاديمي المتخصص في علم الاقتصاد، والذي يهوى تصوير الحياة البرية، ويُظهر ديسمًا (صغير الدب) وهو يتجول وحده في حقل زراعي، طارحًا التساؤل عن عدم ظهوره بصحبة والدته في الفيديو ذاته؛ إذ على ما يبدو أنه ضل طريقه عنها.
"الفيديو الذي صورته جاء بالصدفة في 22 ديسمبر 2019".. يقول "عياش"، في حديث إلى "للعلم"، مضيفًا أنها "ليست المرة الأولى، فقد شاهدته في عام 2014 في المكان ذاته، وتابعت مراقبته في الفترة من شهر أكتوبر حتى شهر ديسمبر من كل عام، بالإضافة إلى أنني رصدت دبًّا آخرَ في بلدة نحلة- أرض جرداء تابعة لبعلبك في العام 2016". وتقع بلدة نحلة شمالي شرق بعلبك، وتبعد عنها نحو ستة كيلومترات.
"عياش" الذي يصف مشاهداته الفضولية بالمرعبة، كان سببها قدرته على الاقتراب من ذلك الدب الصغير، الذي تبيَّن فيما بعد أنه لم يكن بمفرده، وهو المشهد الذي لم يستطع المنظار الليلي العسكري توثيقه.
يشير "عياش" إلى أنه شاهد فيما بعد جهيزة (أنثى الدب) كبيرة يبلغ حجمها حجم ثلاثة كلاب كبيرة، وإلى جانبها دبان صغيران متوسطا الحجم، يبلغ حجم كلّ واحد منهما -وفق قوله- حجم كلب كبير، وكانت ألوانهما تميل إلى البني الداكن والأسود؛ إذ كانوا يحفرون بمخالبهم البيضاء قرب الأشجار التي تغطيها الثلوج، محاولين الوصول إلى ثمار الفاكهة التي سقطت عن الأغصان"، لافتًا إلى أن "أنثى الدب كانت نحيلة وعظامها بارزة بشكل واضح، نظرًا للجوع وصعوبة الحصول على طعام في هذه المرتفعات الجرداء على الحدود اللبنانية السورية".
وكان قد جرى تسجيل "مسارات الدب البني في الثلج في جبال لبنان الشرقية في عام 2004 لأول مرة منذ اختفائه عن الأنظار قبل حوالي خمسة عقود، كما تم تسجيل مساراته مرةً أخرى في فبراير 2011 في المكان ذاته"، يقول هاني الشاعر -المدير الإقليمي للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة (IUCN)، مكتب غرب آسيا- في حديث إلى "للعلم"، مضيفًا أنه "جرى التعرُّف على الدب البني السوري لأول مرة في لبنان في عام 1828 في جبل المكمل (أعلى جبال لبنان) في بشري -يبعد 130 كلم عن بيروت- ولكن التغييرات التي حدثت في بيئته -بالإضافة إلى الصيد المفرط- أدت بهذا النوع إلى الانقراض بعد مرور أكثر من 100 عام على اكتشافه للمرة الأولى، وكان قد شوهد للمرة الأخيرة في لبنان في العام 1958، إذ لم يظهر بعدها".
ويقول "الشاعر" إن هناك ذكرًا وأنثى من هذه السلالة ما زالا يعيشان في إحدى المحميات في عاليه- 17 كم عن بيروت، ولكن لم تنجح حتى الآن أي محاولات للتزاوج بين الدبين.
الدبان الأخيران في لبنان؟
يعيش بالوو (baloo- 15 عامًا) وزوجته تيدي (teddy- 13 عامًا) كما سماهما منير أبو سعيد، الأستاذ المحاضر في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية، في "مركز التعرف على الحياة البرية" في عاليه، وحيدَين منذ أكثر من 10 سنوات في بيت صغير مُسيّج بقضبان حديدية، بعدما أحضرهما من إحدى حلبات السيرك، وذلك من أجل توفير فرصة جديدة للحياة.
يحتوي المركز على خمسة وثلاثين فصيلًا مختلفًا من الثدييات البرّية والطيور والزواحف، والدببة البنية، والسلاحف البرية، وحيوان الغرير، والغزال، وابن آوى، والضباع المخططة، والخنازير البرية، والطاووس، والماعز، والقطط البرية، والديك الرومي، والطيور المهاجرة، والثعلب، والصقر، والوعل، والنسر الأفريقي، ومعظمها مريضة ويتيمة، إلا أن "أبو سعيد"، يحيطها برعاية خاصة، تساعد في تحسُّن ظروف عيشها، منذ العام 1993.
على الرغم من الظروف الجيدة التي يوفرها "أبو سعيد" للحيوانات، لم يستطع الثنائي "بالوو" و"تيدي" حتى الآن أن ينجبا دبًّا صغيرًا، ليعاودوا إطلاقه في الطبيعة، في محاولة لحماية هذا النوع النادر من الانقراض.
ما هو الدب البني السوري؟ وأين يعيش؟
يتشكل فرو الدب البني السوري عادةً من اللون البني الفاتح، الأشبه بلون القش، وعادةً ما تكون أرجلهم داكنةً أكثر من بقية الجسم. وهو الدب الوحيد المعروف في العالم الذي يمتلك مخالب بيضاء، ويبلغ وزن الذكر البالغ حوالي 550 رطلًا (250 كيلوجرامًا)، ويتراوح طوله من 101 إلى 140 سم، إذ يتم القياس بدءًا من الأنف إلى نهاية الذيل.
ويعيش الدب البني السوري في الغابات والمراعي والمناطق الجبلية في البرية من 20 إلى 25 عامًا، بحيث يقتات على الفواكه والتوت والبذور والنباتات والأعشاب والمكسرات واليرقات والثدييات الصغيرة، كما يدخل الأراضي الزراعية أحيانًا ويهجم على الماشية لأكل اللحوم. ويُعتقد أن التزاوج يحدث في الفترة الواقعة بين شهري مايو ويوليو، وتولد الدببة الصغيرة في الشتاء في الفترة ما بين أواخر يناير وأوائل فبراير.
وتأكيدًا على ذلك، يقول حنا ميخائيل، المهندس الزراعي، في حديث إلى "للعلم": "لطالما استغربنا وجود شجرة خوخ الدب (Prunus Ursina)، وهي شجرة تستوطن بلاد شرق البحر المتوسط، وتوجد هذه الأشجار في المناطق الجرداء على ارتفاعات أكثر من 800 متر فوق سطح البحر، وهي ثمار مفضلة لدى الدببة".
ويضيف ميخائيل أن "الدب البنّي عادةً ما يهجم على رعاة المواشي بهدف أكل اللحوم، الأمر الذي أدى إلى قتله من قِبَل الرعاة لحماية قطعانهم، كما أن الدب نفسه كان ضحية الذين كانوا يقتلونه للاستفادة من فروته، وكان هذا أحد الأسباب التي أدت إلى انقراضه".
من جهته، يقول "أبو سعيد"، في حديث إلى "للعلم": إن الدب البني السوري الذي جرى تصنيفه في عام 1828 من قِبَل عالِم الطبيعة فيلهلم هيمبريتش Wilhelm Hemprich وعالِم الحيوان كريستيان إرينبرج Christian Ehrenberg على أنه نوع فرعي، وهو الأصغر بين سلالته من حيث الحجم والوزن، ولا يمكن أن يدخل في السُّبات الشتوي (Hibernation)؛ وذلك لعدم قدرته على تخزين الدهون، ما قد يعرِّضه للموت جوعًا، لذلك يجتهد في البحث عن مصادر الطعام في الشتاء".
ومثل العديد من الثدييات الكبيرة، "يتراجع عدد الدببة السورية البنية بسبب فقدان الموائل والصيد غير المشروع، إذ تُمثِّل الدببة هدفًا للصيادين في الشرق الأوسط وقارة آسيا، حيث تُعد مادة الدب الصفراء (ursodeoxycholic acid) سلعة ثمينة؛ بسبب استخدامها في الطب الصيني التقليدي، كعلاج مفترض للروماتيزم وضعف البصر، وأمراض أخرى"، وفق " الشاعر".
هل انقرض الدب البني السوري؟
يقول "الشاعر": إن آخر تقييم للائحة الحمراء صدر في عام 2009 وصنف فريق SSC Bear Specialist Group التابع للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة، حالة حفظ الدب البني السوري بشكل عامّ على أنها ضعيفة وهشة (vulnerable) في إيران والعراق وتركيا وأذربيجان وأرمينيا وتركمانستان وجورجيا، ولكنه انقرض رسميًّا في لبنان وفلسطين، كما أنه مدرج في الملحق الثاني من اتفاقية CITES (معاهدة التجارة العالمية لأصناف الحيوان والنبات البري المهدد بالانقراض)، التي تضم كل الأنواع التي ليست بالضرورة مهددة حاليًّا بالانقراض، ولكن ربما تصبح كذلك ما لم تخضع التجارة في هذه الحيوانات النادرة لتنظيم صارم؛ من أجل تجنُّب الاستغلال المتنافي مع بقائها، وعدد هذه الأنواع يتخطى 1400 نوع حيواني وأكثر من 22000 نوع نباتي.
ووفق "الشاعر": "عاش الدب البني السوري -وهو واحد من 16 نوعًا من أنواع الدب البني في جميع أنحاء العالم- في سلاسل الجبال في جميع أنحاء الشرق الأوسط، ووُجد أيضًا في أرمينيا الشمالية، وأذربيجان، وأبخازيا في جورجيا، والعراق، وإيران، وشبه جزيرة سيناء، ولبنان، وفلسطين، وتركيا، وتركمانستان".
وحتى فترة الثمانينيات من القرن التاسع عشر، كان الباحثون يتداولون المعلومات عن ندرة الدببة في سوريا، ولكنهم كانوا يؤكدون وجودها في المنطقة، حيث كانت تعيش في جبل حرمون (جبل الشيخ)، الذي يُشكّل القسم الأكبر والأهم والأعلى من سلسلة جبال لبنان الشرقية التي تمتد بين سوريا ولبنان، وبعض المناطق الحرجية المتبقية في لبنان، وهذا ما أشار إليه لي تالبوت Lee Talbot الباحث المتخصص، في تقرير نشره عن استمرار رؤية جلود الدببة السورية للبيع في الأسواق في سوريا في أواخر عام 1955.
لكن شيئًا ما قد تغير، فقد تمكَّن عصام حجار -المصور والباحث لدى "المعهد الفرنسي للشرق الأوسط" في دمشق، والذي يركز على التراث التاريخي والجغرافي لسوريا- من التقاط صورة لمسارات الدب في يناير من عام 2004 في منطقة بلودان- التي تبعد 50 كلم عن دمشق، حيث كان "حجار" يمشي برفقة صديقه عبر سلسلة جبال لبنان الشرقية، في جو ضبابي على ارتفاع 1900 متر.
وصف "حجار" المسارات في تقرير نشره موقع IUCN في عام 2011 بعنوان "لغز الدببة البنية في سوريا" المسارات التي وجدها بأنها كانت تحوي آثار خمس أصابع ومخالب كبيرة مميزة، وأدرك لاحقًا أنها كانت تخص دبًّا. وعلى الرغم من أن هذا الدليل كان الأول على إثبات وجود الدببة في سوريا منذ حوالي 50 عامًا، إلا أن هذا الاكتشاف لم يُسلَّط عليه الضوء حتى عام 2010، وقت أُعلن مشروع حماية الحيوان في سوريا بالتعاون مع وزارة الثقافة السورية خلال الاحتفالية الرابعة لليوم العالمي للحيوان، واختيار "الدب البني السوري" حيوان العام 2010.
وما يثير الدهشة -وفق التقرير ذاته- أن السكان المحليين بدوا غير مدركين لوجود دببة في المنطقة المجاورة، على الرغم من أن السهول التي عُثر فيها على المسارات تنتشر فيها بساتين التفاح، وهو عنصر جاذب للدببة.
وعلى أثره، قام فريق من مجموعة اختصاصيي الدببة Bear Specialist Group (SG) التابعة للاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة بفحص الصور، مما جعلهم يتأكدون أن المسارات المكتشَفة تعود إلى الدببة. وقد استنتج الفريق، علاوةً على ذلك، أنه إذا نجحت الدببة بالعيش في هذه المنطقة منذ خمسينيات القرن العشرين، فهذا مؤشر على أنهم استطاعوا تطوير تقنية التزاوج والعيش في هذه المناطق الوعرة، وهناك احتمال آخر، أن دبًّا بنيًّا قد ضل طريقه من تركيا.
وبعيدًا عن سوريا، من الصعب دائمًا معرفة ما إذا كان هناك حيوان نادر ما زال موجودًا في بلدٍ كان يُعتقد أنه تم القضاء عليه فيها، وأبرز مثال على ذلك هو العراق، فلم تكن مجموعة (SG) على دراية بوجود الدببة في العراق حتى عام 2006، عندما لاحظ طيار عسكري أمريكي ما يعتقد أنه دب سوري من خلال جهاز استشعار بالأشعة تحت الحمراء.
فضول "العسكري" دعاه للبحث عبر الإنترنت عن خبراء بالدببة في الشرق الأوسط، بحيث أبلغ عن رؤيته للدب، وعلمت المجموعة من منظمة "طبيعة العراق" Nature Iraq غير الحكومية أن الدببة السورية لا تزال موجودة بالتأكيد في أجزاء من إقليم كردستان في شمال العراق. وأشار السكان المحليون في هذه المناطق في عام 2010 إلى أنهم شاهدوا الدببة في 10 مواقع من أصل 30 موقعًا، بينما يقوم الصيادون المحليون بقتلها، وجرى توثيق هذه الأحداث على كاميرات الهواتف الذكية الخاصة بهم.
وفي فبراير من عام 2018، وجد سكان البصرة في العراق دبًّا بنيًّا سوريًّا يمشي في وسط الطريق، بعدما استطاع الهرب من أحد المتاجر التي تبيع الحيوانات، وفق ما أشارت إليه تقارير صحفية، قبل أن يتم القبض عليه وإعادته إلى المتجر.
هل هذه الدببة محمية؟
يُعتبر لبنان واحدًا من 36 موقعًا عالميًّا غنيًّا بالتنوع البيولوجي، "إلّا أن الحياة البرّية مهدّدة بسبب التدمير البشري للبيئة الطبيعية، والصيد غير الشرعي، وجهل الإنسان بقيمة الحياة البرّية"، وفق ما يقوله "أبو سعيد".
وبموجب قانون تنظيم الصيد البري في لبنان رقم 580 في المادة الرابعة منه، تعتبر "جميع الطيور والحيوانات البرية المقيمة والمهاجرة محمية على مدار السنة، ويُحظر صيدها فيما خلا الطرائد التي يحدد صيدها من قبل المجلس الأعلى للصيد البري".
كما أن الدببة وغيرها من الأنواع المهددة بالانقراض محمية من الصيد والتجارة بموجب العديد من الاتفاقيات الدولية، ومن ضمنها اتفاقية CITES وCITES Bears، التي صادق لبنان عليها في العام 2013.
وهذا ما يستدعي -وفق "الشاعر"- تحديث قائمة اللائحة الحمراء؛ لأن هذا دليل على أن هذه الأنواع تعود إلى موطنها وعلى وجود نظام بيئي يمكنها العيش فيه، وهو ما يُتوقع له أن يجذب العلماء والمنظمات الدولية لبدء الأبحاث والمشاريع حول حماية هذه الأنواع في المنطقة والتحقيق في الأسباب الرئيسية لهذه الظاهرة، وهي خطوة جيدة جدًّا للبدء في الحفاظ على هذه الأنواع المهمة في المنطقة.
المصدر: scientificamerican
مصطفى رعد
| قرّاء غدي نيوز يتصفّحون الآن |