"غدي نيوز"– أنور عقل ضو
لا نعرفهم إلا في لحظات الشدة والخوف، رجال لا تهون عزائمهم، يركبون الخطر في سبيل إنقاذ الآخرين، دون أن يمن أحد عليهم بكلمة تقدير أو ثناء. إنهم رجال الثلوج والعواصف، سائقو الجرافات وعمال يجبهون الشدائد وتلفح وجوههم رياح لا يقوى على احتمالها إلا من استمد القوة من جبال لبنان وقساوة طبيعتها ومناخها.
لم يقارب أحد طبيعة عملهم إلا من موقع النقد، وغالباً ما يعلو الصراخ من غير مكان "الطريق قطعت وثمة محاصرون"، ولما تنفرج الأزمة ويصبح المحاصرون في أحد مراكزهم ينشد الدفء، ينتهي كل شيء، دائماً هناك تجنّ عليهم وافتئات غالباً ما يطاولهم من المسؤول والمواطن في آن.
وفي وقت ليس ثمة من يتجرأ في ذروة العاصفة على الخروج أمتار عدة من منزله، نراهم يعتلون جرافة أو جراراً ويحضرون بعض العدة من رفوش ووسائط جرف بدائية لينقذوا حياة مواطن، وفي أحيان كثيرة يضلون الطريق وسط الضباب الكثيف ويكونون في دائرة الخطر إذا ما أخطأ سائق الجرافة الطريق، حتى أن بعضهم يقود وسط العواصف بقوة الانتباه والتقدير الصحيح، ويتابعون دون تردد لإكمال المهمة، لأن ثمة مواطنين ينتظرون المساعدة قبل أن يدهمهم الصقيع.
ولا يقتصر دورهم على فتح الطرق وجرف الثلوج فحسب، فهم يعالجون الجليد، ويعبئون أكياس الملح في الآليات المخصصة لإذابة الجليد المتجمع على الطرق، لحماية المواطنين وتأمين تنقلهم بسلامة.
"غدي نيوز" أمضى ساعات عدة مع هؤلاء الرجال في "مركز جارفات الثلوج" في منطقة المديرج، كان الطقس مشمساً صباحا، لكن الصقيع كان أكثر حضوراً من أشعة الشمس، كان ثمة عمال يفرغون أكياس الملح في آليات خاصة، تعرف بـ "الملاحات" التي تنثر الملح آلياً على الطرق لإذابة الجليد. أحد العمال ممن تخطوا العقد السادس من العمر، أشار إلى "اننا كنا نقوم برش الملح بأيدينا على الطرق وكنا دائماً معرضين للبرد والصقيع أما اليوم فهذه الآليات سهلت عملنا كثيراً".
بعض العمال كانوا منشغلين أمام مدخل المركز بإصلاح إحدى الجرافات، وأشار أحدهم إلى "اننا نستفيد من تحسن الطقس لإجراء بعض أعمال الصيانة على الآليات"، ولفت إلى أن "المركز مجهز بورشة عمل أولية لإصلاح الأعطال العادية".
والمركز القائم في المديرج يعود إلى ايام الاتراك والفرنسيين، قبل شق الطريق الدولية، ولم يكن أكثر من مجرد بناء متواضع، وكان أبناء قرى المتن الأعلى وعاليه يعملون في جرف الثلوج بواسطة الرفوش لتأمين مرور القطارات، وكان العمل يتركز على إبقاء خط سكة الحديد بين بيروت _ دمشق سالكاً، وكان هذا العمل يؤمن مردودا إضافياً للمواطنين الذين كانوا يعتمدون الزراعة كمورد رزق أساس.
ويتذكر الشيخ سعيد زين الدين تلك الأيام ويعود بالذاكرة إلى الأربعينيات من القرن الماضي "يومها كانت عدتنا الرفوش وكنا نتناوب على العمل لفتح خط سكة الحديد"، وأشار إلى أنه في "إحدى السنوات وفي شهر نيسان (ابريل) لم نتمكن من فتح خط سكة الحديد إلا بعد ثلاثين يوماً بسبب كثافة الثلوج التي كانت تصل إلى حدود الأربعة أمتار وأكثر".
رئيس المركز المهندس وليد مساعد، أشار إلى "المركز القديم الذي تعرض خلال الاجتياح الاسرئيلي والحرب الى اضرار وتم ترميم قسم منه سنة 1992". وقال: "عندما كان المهندس الراحل علي حراجلي وزيراً للأشغال العامة، تم بناء المركز الجديد وافتتح سنة 1996، وهو مركز حديث يتلاءم مع ظروف المناخ وفيه مواصفات هندسية جديدة ومرافق عدة، فهو يتضمن التدفئة المركزية، وإهراء للملح وخزان مياه كبير و"كاراجات" تستوعب عشر جرافات فضلاً عن تجهيزاتها الفنية من مضخات هواء ومولد كهرباء ومغسل وفسحة كبيرة تتصدر المركز".
واشار إلى وجود "ورشة للصيانة خفيفة وتؤازرنا في هذا المجال دائرة التجهيزات والنقل في وزارة الاشغال العامة"، ولفت مساعد إلى أن "المركز يضم حوالي عشر غرف للنوم مجهزة بأسرة ولوازمها وقاعتين للجلوس وقاعة للاجتماعات ومطابخ وملاحقها".
وأشار إلى أن "ثمة مركزاً آخر قديم في ضهر البيدر قرب مخفر الدرك تم ترميمه بعد الحرب ويستوعب عناصر وزارة الأشغال وهو مركز مستقل وهناك تنسيق كامل بين المركزين"، ولفت مساعد إلى أن "عدد العاملين 52 عنصرا يعملون لمدة 5 أو 4 أو 6 اشهر حسب قرار مجلس الوزراء وتدفع اجورهم خلال فترة العمل الفعلي ويتوزعون بين رئيس مركز وسائقي معدات ثقيلة من جرافات وناسفات ثلوج وملاحات ومعاون سائق وعمال موسميين".
كان من الصعب الوقوف على تفاصيل متصلة بالواقع الاجتماعي للعمال، فهم غير مخولين الحديث إلى وسائل الإعلام، ولكن البعض يشكو من أن "طبيعة العمل والمخاطر التي نتحملها أكبر بكثير من المردود المادي"، خصوصاً إذا علمنا أن بعضهم يتقاضى الحد الادنى للأجور اضافة بدل اختصاص.
أحد العمال قال: "صراحة نود عدم الحديث عن الأجور، كي لا يظن أننا بصدد الشكوى من وزارة الأشغال، في وقت نعرف أن البلاد تمر في ظروف صعبة، فضلاً عن أن الوزارة تقدر عملنا ليس بالضرورة بالمال والرواتب، المهم أننا نقوم بعمل إنساني يفي الكثير من تعبنا، خصوصاً عندما ننقذ مواطنين، وهذه مسألة لا تقدر بمال".