"غدي نيوز" – أنور عقل ضو
من يعود بالذاكرة إلى منازل الأجداد العتيقة في القرى اللبنانية، لا بد وأن يستعيد رائحة أشجار "الزيزفون" المزهرة وهي تتصدر الباحات والمداخل، ويتذكر كيف قطف ذات يوم قصفة من شجيرات "اللويزة" وتعطرت يداه بها، قبل أن تحلّ مكانها أشجار غريبة أو غابت أساسا الفسحات الخضراء مع "ثقافة الاسمنت"، وقتذاك كانت أزهار الزيزفون الصفراء الصغيرة واحدة من أزهار وأعشاب كثيرة تعد كنوع من "الزهورات" لعلاج نزلات البرد في الشتاء، وكانت أزهار "اللويزة" شرابا يتناوله أجدادنا قبل أن يعرفوا البن والشاي.
ما يسترعي الانتباه في هذا المجال أن كثيرين استعادوا زراعة "اللويزة" وكأن ثمة عودة إلى المنابع الأولى. وما تخلينا عنه طوعا بفعل "التطور" والاستسهال، أدركنا قسرا أنه حاجة تعيد لنا بعضا من هوية ضائعة، وتعيد بعض سمات البيت القديم في مواجهة موجات الحداثة ومشروبات "السوبر ماركت" بما تحمل من مواد ومنكهات صناعية ثبت ضررها على الصحة، والمسألة بهذا المعنى أبعد من "الزيزفون" و"اللويزة" لأنها متصلة بتراث وتجربة اكتسبها الأجداد جيلا بعد جيل بالتجربة الحسية، فتصدرت المنازل المعقودة والمزدانة بالقرميد وبقناطر مشغولة بالعرق والتعب.
ويبدو أن ثمة صحوة قائمة الآن "نتلقى طلبا كبيرا على أشجار (اللويزة)"، تقول المهندسة الزراعية جنان أبو سعيد، وهي صاحبة مشتل زراعي، وتضيف: "قبل نحو ثلاث سنوات لم يكن هناك طلب كبير على الاشجار اللبنانية المنشأ، الا اننا بدأنا نشهد اقبالا عليها ولا سيما على أشجار (الزنزلخت) التي بدأنا منذ سنتين نحضر منها أغراسا بأعداد كبيرة، حتى أن بعض المواطنين طلبوا انواعا من الاشجار غير متوافرة في السوق ومنها (القطلب)، ومن هنا نسعى مع المصادر التي تزودنا بالأغراس إعادة الاعتبار لهذه الأنواع".
واشارت أبو سعيد أن "هناك اقبالا كبيرا على أغراس (اللويزة) ونؤمنها الى المواطنين فهي أصبحت متوافرة في المشاتل نتيجة هذا الاقبال"، لكنها لفتت إلى أن "الطلب قليل على (الزيزفون) لاسباب لا نعرفها، ولذلك فأغراسها غير متوفرة بكثرة ربما لصعوبة انباتها وقلة الطلب عليها في آن".
اللويزة تطرد الأحزان
تعرف "اللويزة" علميا باسم Aloysia ومنها اصناف عديدة، أما اسمها فهو معرب عن الاسم العلمي Aloysia المشتق من إسم زوجة ملك اسبانيا كارلوس الرابع (1788 – 1808) ماريا لويزاMaria Luisa ، وكان الاسم المتداول سابقا "المليسا" ومعروفة في بعض المصنفات العلمية ايضا بهذا الاسم Melissa، إلا أن احدا لا يعلم كيف أصبحت تعرف باسم "اللويزة" كونها من الشجيرات التي تعيش في البيئة المتوسطية وهي ترقى إلى زمن بعيد جدا، وفي بعض المصنفات العلمية الاخرى تعرف باسم "عشبة نحل البحر المتوسط".
شهدت زراعة "اللويزة" تراجعا بعد أن كانت زراعتها من ضرورات الحياة بفضل أزهارها العطرية، وكانت تزرع في كافة المناطق اللبنانية ساحلا وجبلا، إلا أن البعض واظب على الاعتناء بها، ويقول الشيخ خليل ضو أن "زراعتها سهلة ولكن في نهاية الصيف وتحديدا في شهر تشرين الثاني أو مع بداية الربيع وتديدا في نيسان"، ويضيف "فقط نكسر منها غصنا صغيرا ونضعه في الأرض"، وأشار الى أن "أجدادنا عرفوا أهمية (اللويزة) وكانت وما تزال تستعمل كنوع من (الزهورات) لمعالجة الرشح ونزلات البرد، وهي تزرع في حديقة كما ترون، للاستعمال عند الطلب"، ولفت إلى أنها "من النباتات والأشجار الشعبية المطلوبة كثيرا، وكانت تستخدم سابقا في مجال الطب الشعبي، والآن عاد الطلب عليها وغالبا ما أقدم أغصانا وفروعا لدى تقليمها الى كثيرين بدأوا يهتمون بزراعتها".
الموطن الأصلي الأصلي لشجيرة "اللويزة" هو منطقة البحر الأبيض والمتوسط ويكثر وجودها في لبنان وسوريا، "قال عنها أحد الخبراء انها تطرد كل الأحزان وكانت من الأشجار المفضلة في القرون الوسطى لتحضير (اكسير الشباب) وفي القرن الثامن عشر كان يعتقد انها تجدد الشباب"، على ما يشير طارق أبو الحسن المتخصص في مجال التدواي بالأعشاب.
ويضيف أبو الحسن: "أزهار وأوراق (اللويزة) غنية بزيت طيار ومواد دابغة ومواد مرة وفلافونيدات وتربينات ثلاثية وفينولات وحموض العفص"، وقد ربط الناس منذ اقدم العصور بينها وبين العسل حيث ان لها خواص العسل والغذاء الملكي".
واشار أبو الحسن إلى أنه في "دراستنا لشجيرة اللويزة لفتنا ما أكده البرفسور نورمان (استاذ الصيدلة في الكلية الملكية بجامعة لندن ومؤلف كتاب العقاقير الطبية) ان أوراق اللويزة أدخلت ضمن الوصفات الجيدة لعلاج الصداع أو الشقيقة وينصح باستخدام ملعقة إلى ملعقتين من اوراق النبات الجاف تضاف إلى كوب ماء سبق غليه ويترك حتى يبرد ثم يشرب"، ولفت إلى أن "فوائدها الطبية أكثر من أن تحصى وهي تخضع لدراسات كثيرة للوقوف على أهميتها".
وقال: "لا يمكن الحديث عن (اللويزة) باقتضاب كونها موضع اهتمام العلماء، لكن لا بد من الاشارة الى كتبه جون افلين عام 1706 من أنها علاج للدماغ كونها تقوي الذاكرة وتطرد الاكتئاب، وما زالت هذه العشبة الغنية بعطرها مكانتها على نطاق واسع لخصائها المهدئة. فقد بينت الأبحاث الألمانية أن الزيت الطيار يهدئ الجهاز العصبي المركزي ويعتبر مضاداً قوياً للتشنج. كما وجد أنها تكبت عمل الغدة الدرقية. وهي دواء رسمي، فقد اعتبرته اللجنة الألمانية وهي اللجنة المسؤولة عن الدواء وهي مماثلة لهيئة الغذاء والدواء الأميركية FDA دواء مهدئاً وملطفاً للمعدة".
ما يتوصل اليه العلم الآن حيال "اللويزة" التي تصنف ما بين الشجر والعشب كون ارتفاعها لا يتعدى المتر ونصف المتر، خبره الأقدمون بالتجربة، وعن طرق استنباتها تقول الاخصائية في المحاصيل الزراعية الدكتورة ديانا مروش أبو سعيد أن "من الضروري لتسريع نموها وضع نوع من الهرمون هو الـ Rooting Hormon عند الأغصان المأخوذة من الشجرة"، وتشير إلى أن "اللويزة معروفة في فرنسا باسم Vervine، وهي تشرب كما الشاي وهناك اقبال عليها من جديد حتى أنها تسوق كونها مفيدة للصحة".
الزيزفون عطرية وطبية
أما أشجار الزيزفون فما يزال بعضها موجودا منذ زمن بعيد، ولكن أغراسها غير متوفرة على نطاق واسع، ما لفت انتباهنا أن أحدا من المهندسين الزراعين يعرف كيفية استنباتها كأغراس جاهزة للزرع، "الامر استفزني لاجراء دراسات عنها"، على ما قالت الدكتورة أبو سعيد، وأضافت "أنه من الصعب الالمام بكافة هذه الاصناف من الاشجار والنباتات لكثرتها، ولكن ذلك لا يبرر عدم متابعة تفاصيل مهمة عن اشجار موطنها لبنان ومنطقة البحر الابيض المتوسط".
وخلافا لشجيرة "اللويزة" فإن شجرة الزيزفون كبيرة يصل ارتفاعها إلى نحو عشرة أمتار، وهي شجرة معمرة كثيرة الأغصان، وتشبه من حيث أوراقها شجرة الزيتون، ولونها فضي أيضا، ولأزهارها رائحة عطرية وفوائد طيبة.
وأزهارها تبدو مثل عناقيد من الأزهار الصفراء، ويوجد نوعان من الزيزفون. النوع الأول صغير الأوراق ويسمى باللاتينية Tilia cordata، والنوع الثاني كبير الأوراق يسمى Tilia plalyphyllys، وحسب الموسوعات العلمية فإن "كليهما ينمو بشكل طبيعي في جبال لبنان وسوريا وتركيا".
"تتميز شجرة الزيزفون بنوعية خشبها الذي يستخدم في صنع الأدوات الدقيقة كأصابع البيانو والأثاث الثمين والستائر ومن خشبها الداخلي يستخرج نوع خاص من الطلاء المستخدم في تلميع قطع الأثاث" يقول رئيس "جمعية غدي" فادي غانم، ويضيف: "كجمعية نملك مشتلا زراعيا مدرسيا لفتنا هذا الأمر قبل أهميتها البيئية والصحية، فقلنا لماذا لا نبادر الى تعميم زراعتها للاستفادة منها كمورد اقتصادي ايضا"، وأشار إلى "اننا ما نزال في طور إعداد الدراسات اللازمة لنمكن من استنباتها في مشتلنا بدلا من شراء الأغراس من السوق المحلية".
وقال غانم: "في تجربتنا على صعيد المشتل أولينا اهتماما منذ إنشائه قبل اثنتي عشر سنة بالصنوبر والأرز والسنديان، لأننا أردنا تعويض ما احترق من هذه الأشجار، أما الآن وبعد توسيع المشتل أدخلنا أصنافا كثيرة من الأغراس كالشربين والملول ومختلف أنواع الورود، ونحن بصدد استنبات الزنزلخت وأنواع أخرى من الاشجار التي تنتمتي الى بيئتنا اللبنانية ومن بينها الزيزفون".
كمضاد للتشنج والمغص
أما رئيس رئيس "جمعية اليد الخضراء" زاهر رضوان، فقال أنه في اطار مشروع الجمعية الهادف الى تشجيع الزراعات البديلة ولا سيما منها الطبية والعطرية، قمنا بتجربة حول زراعة الزيزفون وننتظر الوصول إلى مرحلة الانتاج لتشجيع المزارعين وتثقيفهم على بيع الأزهار كنوع من الزهورات، فضلا عن أنها تستخدم في صناعة المواد الطبية والتجميلية".
وأشار رضوان إلى أنه "يمكن ان نستخرج من الزيزفون نوعا من الزيت يشبه إلى حد ما زيت الزيتون له استخدامات في مجال الاستطباب وصناعة العطور ومواد التجميل".
ويشير أبو الحسن إلى أن "أزهار الزيزفون تستعمل كمضاد للتشنج ولمغص المعدة والأمعاء وعسر الهضم كما أنها تساعد على التخلص من عفونة المعدة وهي علاج للزكام المحتقن والنزلات الشعبية والسعال والربو ومنشطة لإفراز الصفراء والكبد وهي كذلك ملين ومقشع ومعرق كما أنها مهدئ يساعد على النوم والتخلص من القلق والصداع وتسكن الآلام العصبية وتفيد لآلام المفاصل والروماتيزم، وتستخدم مضادا للإسهال كما تنفع للأرق والاضطرابات الهضمية والعصبية وآلام الرأس وتصلب الشرايين".
وقد استعمل الطبيب والفيلسوف العربي ابن سينا في القرن الحادي عشر هذه أوراق الزيزفون كلصقة لإزالة الورم وتسكين الألم، كما استخدمها كشراب مغلي لمعالجة الدوالي".