يتعرض لبنان الذي طالما تغنى شعراؤه بخضرته وجمال طبيعته وطيب مناخه، لموجة من التصحر، بسبب الحروب المتعاقبة، والتوسع العمراني على حساب الاراضي الزراعية وحرائق الغابات التي قضت على 40 بالمئة من الغابات اللبنانية، فضلاً عن أسباب كثيرة ناجمة عن الفوضى وعدم القدرة على وقف التعديات المباشرة وغير المباشرة، من قطع اشجار وافتعال حرائق واقامة "المشاحر" والرعي الجائر وما الى ذلك من اسباب كثيرة تؤكد ان لبنان بات قاب قوسين ادنى من كارثة حقيقية تتطلب تضافر جهود الجميع لاستعادة المساحات الخضراء.
تعريف التصحر
بدايةً، ما هو تعريف التصحر؟ في مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية الذي انعقد في ريو دي جانيرو عام 1992 تحت شعار مكافحة التصحر تم تعريف التصحر "بأنه تردي الاراضي في المناطق الجافة، وشبه الجافة، وشبه الرطبة القاحلة بسبب عوامل عديدة اهمها التقلبات المناخية والنشاطات البشرية". وانطلاقا من واقع لبنان نرى ان هذا التعريف يأتي مطابقا لواقع الحال على الصعيد الزراعي من تناقص المساحات الزراعية بسبب الزحف العمراني وتناقص المساحات الحرجية بسبب القطع الجائر والامتداد الاسمنتي والرعي الجائر وتعديات من الرعاة، ومن قطعان الماعز وسوء ادارة وعدم اكتراث واهتمام الهيئات الاهلية، اضافة الى الحرائق المقصودة وغير المقصودة التي تقلص مساحة الغطاء الاخضر، ما يهدد اندثار الثروة الحرجية ويقضي على التوازن الطبيعي ويتسبب بزحف صحراوي ليزيد في مساحة الاراضي الجرداء حيث التصحر يجلب المزيد من التصحر خاصة بعد ازدياد فترات الجفاف.
واستنادا الى دراسات منظمة الاغذية والزراعة الدولية عام 1989 فإن الاراضي غير الصالحة للزراعة تقدر بـ 531370 هكتارا، وحسب المعلومات الاحصائية المتوفرة من الاحصاء الزراعي الشامل الذي انجزته منظمة الاغذية والزراعة في لبنان عام 2000 فقد أدى تقلص الغطاء الحرجي وسوء استعمال الاراضي الى وجود مساحات كبيرة من الاراضي البور المهملة غير الصالحة للزراعة، والتي تقدر بنصف مساحة لبنان وتزداد سرعة تردي هذه الاراضي الجرداء بسبب استغلالها لرعي الماشية بطريقة جائرة وعشوائية.
ان حاجة لبنان الى الغابات والاحراج للوصول الى تكامل في استعمالات الاراضي ولتؤدي الغابات دورها الوقائي والاجتماعي والاقتصادي يجب ان لا يقل عن 200 الف هكتار أي ما يوازي 20 بالمئة على الأقل من مساحة لبنان. واذا ترك الوضع على ما هو عليه، فستتفاقم مشكلة ظاهرة التصحر حتى تصل الى نقطة اللارجوع ونواجه كارثة بيئية.
أسباب التدهور
ومن أسباب هذا التدهور المريع للغطاء الاخضر:
-غياب مخطط توجيهي كامل شامل لمختلف استعمالات الاراضي.
-استمرار الرعي الجائر والقطع العشوائي للاشجار.
-وجود 720 مقلعا في المحافظات.
-الحرائق الطبيعية والمفتعلة.
-ضعف تخطيط النمو العمراني ومشاريع الطرق الجديدة مما يتيح استمرار التعديات على المساحات الطبيعية.
-انتشار ما يراوح بني 400 و 500 الف لغم وآلاف القنابل العنقودية من مخلفات الاحتلال الاسرائيلي في الجنوب والبقاع الغربي مما يعطل مساحات واسعة قابلة للزراعة والتحريج ويشكل حائلا دون اخماد الحرائق التي تندلع في نطاقها.
-تفشي الامراض في بعض الغابات.
تراجع المساحات الخضراء
وبنظرة سريعة على المساحة الخضراء المنكوبة في لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية يتبين لنا أننا خسرنا 440 هكتارا في العام 2005 و3460 هكتارا في العام 2006 و4197 هكتارا في العام 2007. وبذلك نكون قد خسرنا 3,26 بالمئة من اجمالي المساحة الخضراء البالغة 247754 هكتارا، وتظهر هذه الارقام ان المعدل السنوي ارتفع كثيرا عام 2006 مقارنة بعام 2005 علما بأن 1338 هكتارا احترقت بفعل الحرب الاسرائيلية على لبنان عام 2006 ليبلغ الذروة في عام 2007 الذي شهد خلال شهري ايلول (سبتمبر) وتشرين الاول (اكتوبر) معدل حرائق غير مسبوق اذ سجل بتاريخ 2/10/2007 حريق قضى على مساحة 400 هكتار وعلى مليون ونصف مليون شجرة حرجية في يوم واحد.
اما في العام 2008 فإن العوامل المناخية التي طغت على شهر تموز (يوليو) والتي تميزت بارتفاع حاد في درجات الحرارة مترافقة مع سرعة رياح الامر الذي أدى الى تفاقم الحرائق واستحالة السيطرة عليها تماما، وكان شهر آب (اغسطس) هو الأسوأ اذ سجل فيه احتراق 20 الف دونم في عيناب وحدها، واللافت للانتباه هنا ان قسما لا بأس به من الحرائق تبقى اسبابه مجهولة او بالأحرى هي حرائق مفتعلة لاهداف معروفة منها الحصول على الفحم والحطب لاغراض التدفئة ومنها تصحّر الارض تمهيدا للبناء عليها.
وهنا يجب التوقف حتى لا تضيع المسؤولية فلا يعقل ان تضيع المسؤولية الرسمية عن ادارة الغابات في لبنان، فإذا كانت وزارة الزراعة هي الجهة المسؤولة قانونا عن ادارة الغابات ووضع الخطط لمكافحة الحرائق، فعليها ان تتحمل المسؤولية وأن تعرض خطة متكاملة وتحدد ضمن برنامج عملي الخطوات الواجب اتخاذها وما هي اجراءات الوقاية لمنع حدوث الحرائق والتخفيف من أثرها ووضع برامج لانتاج النصوب الحرجية وتوزيعها وغرسها والعناية بها، على ان يشارك في هذه الخطة الوزارات والادارات والهيئات والجمعيات الاهلية، وفي مقدمها الجيش وطلاب المدارس والجامعات، وتطبيقا لذلك وجب انشاء ابراج المراقبة وخزانات ترابية لتجميع المياه يمكن استعمالها وتكون قريبة من الاحراج واقامة فواصل بين المحميات وزيادة اعداد مأموري الاحراج والدفاع المدني وشق الطرقات الزراعية الترابية غير المعبدة حول الاحراج تسهيلا لوصول فرق الاطفاء والدفاع المدني عند الضرورة.
الخطط الرسمية والمسؤوليات
وفي الخطة المقترحة لاعادة تشجير لبنان والتي جرى اقرارها عام 2002 بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 31 الصادر بتاريخ 6/3/2002 والتي خلصت الى تشكيل لجنة وطنية مؤلفة من وزارات الدفاع والداخلية والبيئة والزراعة، عهد اليها بوضع خطة زمنية على مراحل لدرس الوسائل المطلوبة والضرورية لتنفيذ مشروع اعادة تشجير لبنان، من خلال اشراك الجيش اللبناني كمنفذ رئيسي لهذه الخطة، الى جانب مشاركة الادارات الرسمية والمعنية، ويمكن هنا الملاحظة بأن العمل اقتصر على الجيش وعلى بعض المحاولات الخجولة من الغير. واللافت ان الخطة الموضوعة لا تتعارض مع خطط الوزارات والادارات والمؤسسات والبلديات والجمعيات المعنية بل تشكل رافدا لها.
والسؤال الملح يبقى في متابعة الاجراءات التي تلي عملية زرع الشتول من ري في المرحلة الاولى الى العناية والتقليم وازالة الاعشاب الضارة واليابسة الى توفر العدد المطلوب من الشتول وامكانية انتاجها محليا وتحديد الاموال التي تصرف في سبيل انشاء المشاتل في القطاع العام ومقارنة كلفة الغرسة الواحدة المنتجة في مشاتل القطاع الخاص.
غياب المسوحات الجديدة
ان أول مسح علمي للغابات اللبنانية قام به "مشروع انماء المناطق الجبلية اللبنانية ـ اعداد وابحاث" الذي نفذه المشروع الاخضر ومنظمة الاغذية والزراعة الدولية (الفاو) بين عامي 1963 - 1965 والذي بيّن ان المساحات المغطاة بالغابات والاحراج كانت في ذلك الحين 68 الف هكتار أي ما يساوي 6,5 بالمئة من المساحة الاجمالية. اما المسح الثاني الذي قامت به (الفاو) عام 1989 بواسطة صور الاقمار الاصطناعية، فقد دل على ان مساحة الغابات والاحراج قد اصبحت 60 الف هكتار أي 5,7 بالمئة، وبذلك يكون لبنان قد خسر خلال 24 سنة مضت (1965 - 1989) ثمانية الاف هكتار من الغابات، هذا عدا ما خسره لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية بفعل الحرائق غير البريئة والحرائق التي سببها العدوان الاسرائيلي عام 2006.
ولم يجر بعد هذا التاريخ أي مسح حرجي لتقييم وضع الغابات من حيث مساحتها وتركيبها وبنيتها وحالتها الصحية، ولكن من المؤكد ان يكون الوضع الحالي اسوأ مما كان عليه عام 1989، كما ان خطر الزحف الاسمنتي الذي امتد في العقدين الاخيرين ليطال عشرين الف هكتار من الاراضي ذات "خصوبة" مرتفعة لحساب الاوتوسترادات والطرقات وامتداد الباطون المسلح، يجب ان يكون ماثلا قبل الشروع بالحديث عن الامن الغذائي، فالرقعة الزراعية بدت في تقهقر وتناقص والسلامة البيئية والايكولوجية لم تتأمن حمايتها وتعزيزها، اذ انه في فترات الحروب الماضية خسر لبنان اكثر من 20 الف هكتار من احراجه واشجاره التي تعتبر تاج البيئة كما تعرضت التربة الى الانجراف والاندثار واقترب خط التصحر.
واذا كانت الاحراج حتى عام 1975 تغطي ثمانين الف هكتار من اصل مساحة لبنان العامة البالغة مليون هكتار تقريبا، فإن الحروب الماضية عرضت الاحراج للتلف من قطع غير مراقب وحرق لمساحات كبيرة تقدر بثلث المساحة الحرجية العامة. وغني عن القول ان لبنان معروف بوفرة احراجه وكثافتها اذ كانت تغطي في ما مضى 270 الف هكتار لم يبق منها حتى الآن الا حوالى 50 الف هكتار الامر الذي يجعل مدى التشجير يهبط من 25 بالمئة الى دون ستة بالمئة بينما المعدل الطبيعي اللازم لتحقيق التوازن ما بين المياه - التربة - المناخ هو في حدود 18 بالمئة.
هذا التناقص في مساحة غاباتنا يضطرنا سنويا ان نستورد 100 الف م3 من الاخشاب اللازمة للصناعة الوطنية، كما ان مساحة الاراضي البور والكائنة في المناطق الجبلية تصل الى 280000 هكتار، وهي عرضة لعمليات الانجراف القوية.
وكذلك مساحات المراعي هي غاية في التلف، فزوال الغطاء النباتي والاستهلاك الزائد للمراعي وعدم وجود مراع اصطناعية. كل ذلك من شأنه ان يعرض للخطر تنمية قطاع تربية المواشي، علما بأن الانتاج الحيواني من الوجهتين الاقتصادية والاجتماعية يؤمن على مدار السنة موردا دائما وثابتا للعمل والدخل معا.
مشكلة زحف الاسمنت
ان اعادة بناء وتنمية القطاع الزراعي في لبنان تتطلب التركيز على النقاط التالية واخذها بعين الاعتبار:
1-ان من أهم الاراضي الزراعية وأخصبها ما يتآكله زحف البناء والعمران والاستعمال لغايات اخرى غير زراعية.
2-ان الغابات والثروة الحرجية ثروة لبنان منذ بدء التاريخ وكذلك البيئة في تدهور مستمر.
3-المراعي والثروة المائية والحيازة الزراعية واليد العاملة في الزراعة، اضافة الى اوضاع الادارة، كلها امور تستوجب البحث على أسس علمية جديدة للانتقال الى وضع حد للهجرة الزراعية من الريف الى المدينة بل للوصول الى هجرة معاكسة.
ان مساحة الاراضي الزراعية الخصبة المتبقية لا تتجاوز 120 الف هكتار، لذلك واصلت منظمة الاغذية والزراعة الدولية منذ مدة طويلة، ولا تزال توصي، بضرورة المحافظة عليها ومنع تقدم البناء من ان يلتهم المزيد منها خاصة بعد ان التهم زحف الاسمنت لغايات البناء والطرقات العديد من المساحات والسهول. فسهول الدامور والشويفات وصيدا وجبيل وطرابلس وغيرها لم يبق سوى اسمائها.
النمو السكاني
وما يزيد الوضع سوءا النمو السنوي للسكان بمعدل مرتفع يبلغ 2,5 بالمئة، فمثل هذا النمو يعني تضاعف سكان البلد خلال 33 سنة وارتفاع عددهم الى اربعة اضعاف خلال 46 سنة، ومعنى ذلك بالطبع بروز صعوبات يتزايد ضغطها وعنفها على زيادة موارد البلاد، واذا اخذ بعين الاعتبار الضرورة المطلقة لرفع مستوى معيشة الطبقات المتوسطة والشعبية بشكل محسوس، فإن معدل الزيادة السنوية في الدخل القومي يجب ان لا يقل اطلاقا عن 4,3 بالمئة كما يقدر ذلك الخبراء.
ان اكثر من 35 بالمئة من سكان البلاد تقطن في بيروت لوحدها والنزوح لا يزال مستمرا من المناطق الريفية وهذا ما ينتج عنه تضاعف المشاكل المدنية ورفع مقدار الصرف الاجتماعي والهجرة واهمال الاراضي الزراعية ونقص في اليد العاملة الزراعية.
وتشير الاحصاءات الى أن الحرائق التي حدثت خلال العام الجاري أتت على مساحة 3000 هكتار وأدت الى احتراق 5 ملايين شجرة أي ما يساوي أربعة أضعاف ما تم غرسه خلال الـ 15 سنة الماضية.