أمستردام - حبيب معلوف*
تحتار كيف يمكن ان تصف مدينة مثل امستردام. مدينة الخضار الدائم، مدينة اقنية المياه التي تخترق كل الأمكنة، مدينة الدراجات الهوائية التي لديها الاولوية في المرور والمواقف والطرق، بعد المشاة، المدينة الاكثر تنظيما لتدخين حشيشة الكيف والجنس، مدينة المراعي والحليب الطازج، مدينة احدث التقنيات لمعالجة النفايات وتوليد الطاقة منها...؟
كل هذه الصفات والمميزات تجمعها مدينة واحدة التي قصدها وفد رسمي ضم، بالإضافة الى النائب سيمون ابي رميا من لجنة البيئة النيابية، (تغيب رئيس اللجنة مروان حمادة في اللحظات الاخيرة)، ممثل برنامج الامم المتحدة الانمائي ادغار شهاب وممثل وزارة الداخلية العميد نقولا الهبر وممثل وزير الطاقة كريم عسيران، ومحمد بركي وفاروق مرعبي عن وزارة التنمية الادارية، وإسماعيل مكي وبسام فرحات عن مجلس الانماء والاعمار، وبسام صباغ وكريستيل رزق عن وزارة البيئة وكاتب هذه السطور.
جال الوفد خلال ثلاثة ايام على معظم معامل معالجة النفايات، ولا سيما على اكبر معمل في العالم لمعالجة النفايات في مدينة امستردام عبر "التفكيك الحراري" وإنتاج الطاقة الكهربائية. وقد جاءت الزيارة ضمن مشروع الاتحاد الاوروبي ومبادرة "افق 2020" وتطبيقاً لقرار مجلس الوزراء رقم 55 الصادر بتاريخ 1/9/2010 الذي وافق على اعتماد التفكيك الحراري وتحويل النفايات الى طاقة في المدن الكبرى واعتماد خطة عام 2006 في باقي المناطق اللبنانية.
وقد أكد ادغار شهاب، مساعد الممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الانمائي، ان الهدف من الزيارة هو اطلاع الوزارات المعنية على التقنيات عن قرب، وان كل تأخير في تبني التقنيات الجديدة لمعالجة النفايات هو هدر للوقت والتربة والمياه الجوفية في لبنان، كون الكمية الاكبر من نفايات لبنان اما في مكبات عشوائية او تطمر او تحرق في الهواء الطلق... خصوصاً ان المشروع الجديد يؤمن طاقة كهربائية من النفايات نحن بأمس الحاجة اليها.
وأكد ان المهم في الموضوع هو الإدارة السليمة لأي خيار. فأفضل التقنيات في ظل ادارة سيئة، يمكن ان يؤدي الى كارثة. وأمل ان يتم الإسراع في تنفيذ خارطة الطريق التي وضعها مجلس الورزاء في قراره الرقم 55 والتي تتحدد بعشر نقاط تبدأ اولا بالتعاقد مع استشاري عالمي لاختيار الحل والآلية الامثل الملائمة للواقع اللبناني ووضع دفاتر الشروط الفنية للتصنيف الاولي لشركات التفكك الحراري. وتقييم وتصنيف الشركات ووضع دفاتر الشروط الفنية للمناقصة النهائية وتقييم العروض ومراقبة التنفيذ.
وبحسب عضو الوفد ممثل مجلس الإنماء والاعمار بسام فرحات، بدأ المجلس تنفيذ قرار مجلس الوزراء رقم 55 المذكور بالتنسيق مع وزارة البيئة عبر إجراء مناقصة لتلزيم استشاري سيكلف بوضع ملفات التلزيم ودفاتر الشروط. وقد تم دعوة 7 شركات عالمية ولم يتقدم منها سوى أربع وهي شركات دانماركية وألمانية.
الوفد بشكل عام أعجب بفكرة ان تنتج نفايات لبنان 120 ميغاواط، أي 7 بالمئة من حاجة لبنان الى الطاقة الكهربائية، اما حول الصعوبات والإشكاليات والمخاطر وحول من يضمن الالتزام بكل هذه الشروط والمعايير في بلد مثل لبنان؟ ومن ضمن أي استراتيجية وطنية للبيئة والطاقة يمكن ان يندرج هذا الخيار؟ فأسئلة بدت بحاجة الى المزيد من النقاش، الذي بدأ باجتماع لأعضاء الوفد المشارك في المجلس النيابي.
لا تشكل الطاقة المتجددة في الاتحاد الاوروبي، حسب نائب رئيس اتحاد الشركات الاوروبية التي تنتج الطاقة من النفايات جان ماندرس، سوى 4 بالمئة من مصادر الطاقة، وقد وضعت الخطط والبرامج والاستراتيجيات لكي تصبح 14بالمئة عام 2020. وتشكل الطاقة المنتجة من النفايات (جميع انواع التقنيات) نسبة 15بالمئة من انتاج الطاقة المتجددة، بالمقارنة مع 40 بالمئة من الهواء. اما نسبة الاعتماد على تقنية التفكيك الحراري لانتاج الطاقة الكهربائية من النفايات، فهي تبلغ 20 بالمئة في الاتحاد الاوروبي، مقارنة مع 38بالمئة للطمر و24 بالمئة للفرز والتدوير وإعادة التصنيع و18 بالمئة للتخمير الهوائي واللاهوائي.
وقد وضع الاتحاد استراتيجيات وخططاً لكي يزداد الفرز والتدوير الى نسبة 50 بالمئة عام 2020. بالإضافة إلى استراتيجيات للوقاية والاحتراس وإعادة الاستعمال والتدوير والتخفيف من إنتاج النفايات وإنتاج الطاقة...الخ، وتتفاوت التقنيات المعتمدة لمعالجة النفايات بين دول الاتحاد الاوروبي بشكل كبير. ففي حين تبلغ نسب الاعتماد على الطمر في اوروبا الشرقية بين 100 بالمئة في بلغاريا ورومانيا ومالطة و90 بالمئة في بولندا ولاتفيا وليتوانيا...
تبلغ نسب الاعتماد على التفكيك الحراري 54 بالمئة في الدانمارك و49 بالمئة في السويد و39 بالمئة في هولندا و35 بالمئة في المانيا و32 بالمئة في فرنسا. اما نسب اعادة التصنيع فهي الاعلى في النمسا 69 بالمئة وألمانيا 65 بالمئة وبلجيكا 60 بالمئة وهولندا 59 بالمئة.
نفايات هولندية
تنتج هولندا 63 مليون طن من النفايات بينها 9 ملايين طن تصنف منزلية، وهي تشكل 15 بالمئة من هذه النفايات، فيما تبلغ النفايات الصناعية 27 بالمئة والزراعية 4 بالمئة بينما النسبة الأكبر فهي نفايات البناء والردميات فتبلغ 40 بالمئة. وتقسم النفايات المنزلية البالغة 9 ملايين طن بين 14 بالمئة عضوية و12 بالمئة ورق وكرتون و4 بالمئة زجاج وواحد بالمئة معادن و7 بالمئة اثاث منزلي و40 بالمئة متبقيات.
معمل التخمير وتوليد الغاز
تمت زيارة معمل للفرز والتخمير اللاهوائي في مدينة خروننغن. وفي جولة على المعمل، لم يظهر اي شيء استثنائي، قد تحسب للحظات انك في معمل "الكورال" في الكرنتينا. فأكياس النفايات تصل كما هي من المنازل من دون فرز، وتمر على جرارات كهربائية ليتم فرز بعض المواد الثقيلة منها، ولا سيما المعدنية، اما الكمية الاساسية الباقية من مواد عضوية والتي تحتوي على المياه بنسب 60 بالمئة. فيتم كبسها لسحب المياه منها ليتم تخمير المادة المتبقية على الطريقة اللاهوائية السريعة في خزانات ضخمة مقفلة لمدة 21 يوماً (مقارنة بالتخمير الهوائي الذي يتطلب 3 و4 اشهر). الا ان المدهش بعد كل هذه العملية، ان المادة المستخرجة من هذه العملية تذهب الى الحرق ولا تستخدم في الزراعة، لانها لا تتطابق مع معايير الكمبوستاج المعتمدة في الاتحاد الاوروبي، كونها تحتوي على معادن ثقيلة. ولكن من عملية التخمير، يتم انتاج الغاز. قسم منه يذهب لتزويد المعمل نفسه بالطاقة والقسم الآخر يتم وصله بالشبكة لتوزيعه على السكان المجاورين. ويشرح مدير المعمل: "ان كل طن من النفايات العضوية المخمرة ينتج 200 كيلواط كهرباء او الف متر مكعب بيوغاز، اي 700 م3 من الغاز المنزلي".
اكبر معمل للتفكيك الحراري في العالم
الزيارة الأهم كانت لأكبر معمل للتفكيك الحراري في العالم في وسط مدينة امستردام. يقع المعمل، الذي تملكه بلدية امستردام، على مساحة 70 الف م2. يعالج هذا المعمل 4400 طن من النفايات المنزلية يوميا، او 1400000 طن في السنة. كما يحرق مئة الف طن من الوحول الناجمة عن معالجة الصرف الصحي، ويولد بالمقابل 125 - 130 ميغاواط من الكهرباء، وهي تشكل نسبة واحد بالمئة من انتاج الكهرباء في هولندا. كما يتم انتاج ابخرة ومياه ساخنة توزع على الاماكن المجاورة. مدير المعمل شرح كيفية تطوير المعمل منذ عام 1993 وعام 2007. كما يعود بالتاريخ الى عام 1885 حين بدأت عملية حرق النفايات في امستردام. فعام 1917 كان يتم حرق 150 ألف طن في السنة من دون اي معالجة للتلوث. وعام 1969 كانت تتم معالجة 500 الف طن وعام 1993 وصلت الكمية الى 800 الف وعام2006 الى 500 الف طن...الخ، ليظهر في النهاية ان هناك اجيالاً عدة من طرق الحرق التي تطورت جدا في مراحلها الاخيرة بعد عام 2007.
كيف يعمل المعمل؟
يتقلى نفايات البلديات عبر الشاحنات التي ترميها في خزان كبير، ثم تأتي اليد الحديدية الكبرى لتحملها الى المحرقة. هناك يتم تسخين المياه على درجات عالية جدا فتدخل الأبخرة في انابيب لتولد الطاقة الحرارية. عن كل طن من النفايات ينتج 850 كيلواط ساعة كهرباء، وخمسة كيلوغرامات الومينيوم ومعادن و25 كلغ حديد و120 كلغ اتربة ورمول ومئة كلغ زجاج و7 كلغ ملح للطرق، 5 كلغ جفصين و5 كلغ مواد غير قابلة للمعالجة (تذهب الى الطمر اجمالا). يعمل في هذا المعمل 370 موظفاً، وتسيره غرفة تحكم شبيهة بغرفة تحكم مركبة فضائية. تقدر كلفة إنشاء المعمل بين 600 و700 يورو للطن، وبكلفة إجمالية قدرها احد الخبراء بما يقارب 820 مليون يورو. تدفع البلديات التي تريد ان تعالج نفاياتها في هذا المعمل ما بين 70 و80 يورو على طن النفايات، ويبيع المعمل الكهرباء بما يقارب 9 سنت (دولار) للكيلواط. مقارنة مع لبنان هذه الارقام ادهشت الوفد اللبناني لناحية تطابقها مع الحالة اللبنانية، اذ تبين ان هذا المعمل يعالج ما ينتجه لبنان يوميا، اي ما يقارب 4500 طن من النفايات المنزلية. مع الاشارة ان "سوكلين" تجمع مليون طن في السنة. هذه الارقام استهوت ممثل وزير الطاقة كريم عسيران الذي قام بمقارنة سريعة لاحتساب الجدوى الاقتصادية بالنسبة الى لبنان. فإذا كانت كمية النفايات نفسها، واذا كان معمل امستردام يؤمن واحد بالمئة من كهرباء هولندا، فإن معمل مماثل لنفايات لبنان المقدرة باكثر من 4300 طن يوميا، يمكن ان تولد120 ميغاواط من حاجة لبنان الحالية الى 2200 ميغاواط، اي بنسبة 7 بالمئة من انتاج الطاقة الكهربائية، وهي نسبة مهمة لبلد مثل لبنان، بحاجة لحل قضية نفاياته وبحاجة الى إنشاء المزيد من المعامل لزيادة انتاج الطاقة.
طرحت حول هذا الاستنتاج المغري علامات استفهام عدة، منها ما يتعلق بكيفية جمع كل نفايات لبنان في مكان واحد، واين سيتم اختيار هذا المكان الذي يفترض ان يكون قريبا من البحر من اجل تبريد المعمل الحراري، ومن سيضمن ان يتم الالتزام بهذه التقنيات المتطورة والتي تحتاج الى صيانة عالية جداً. وقد طرحت فكرة ان يتم تلزيم إنشاء معمل بموجب عقد لفترة 25 سنة على طريقة الـ "بي او تي"، تنص شروط العقد على الالتزام بالشروط المحددة في دفتر الشروط، على ان يشتري المعمل النفايات من البلديات بـ 60 دولار للطن، وعلى ان تشتري الدولة منه الكهرباء بسعر 11 سنت للكيلواط. مع الاشارة الى ان كلفة انشاء معمل مماثل في لبنان بقدرة معالجة مليون و400 الف طن تقارب 840 مليون يورو او ما يقارب مليار دولار، ويحتاج الى سنتين للانشاء وسنة لتحضير دفاتر الشروط والتلزيم والاطار القانوني.
كيف تعالج الانبعاثات والرماد؟ ماذا بعد ما يسمى تفكيك النفايات على حرارة عالية جدا؟ ماذا عن الانبعاثات التي طالما كانت محل شكوى في العالم، بالاضافة الى كيفية معالجة الرماد الذي ينجم بعد الحرق والذي يشكل نسبة 20 بالمئة من النفايات؟ تحتل عملية الفلترة والتصفية ثلثي مساحة المعمل، وثلثي المراحل التي يعمل بها المعمل. فبعد التفكيك الحراري يصعد بالطبع الدخان المؤلف من رماد وغبار. يتم سحب هذه الدخان المتطاير في المرحلة الاولى. ثم في المرحلة الثانية يتم زيادة الأمونياك في قلب الحراقات لكي يتم سحب مادة النيترات، اي لتنقية الهواء من مادة النيترات. بعدها يتم ازالة اول اوكسيد الكربون بواسطة فلاتر ضخمة مخصصة لذلك (الكتروستاتيك). كما يتم بعد ذلك ازالة مادة الكبريت بواسطة فلاتر متطورة تسمى "كم القميص". بعد كل هذه العمليات من الفلترة التي تحتل ثلثا مساحة المعمل، يخرج الهواء من انابيب طويلة محتوياً على ثاني اوكسيد الكربون بنسبة 12 بالمئة وعلى نسبة 25 بالمئة من بخار المياه. اما النسبة الباقية فهي مادة النيتروجين المتواجدة اصلا في الهواء. نوعان من الرماد اذا يخرج من عملية التفكك الحراري للنفايات، رماد النار الذي شكل نسبة 20 بالمئة والغبار الذي تلقته الفلاتر الذي يشكل نسبة واحد بالمئة. ويعتبر غبار الفيلتر (الفلو غاز) الأخطر، لاحتوائه على مواد سامة وخطرة. ولذلك يقوم معمل امستردام بنقل هذه المواد الى ألمانيا لتدفن في مناجم الملح تحت الارض. بينما يمكن للزائر ان يشاهد جبال ضخمة من رماد المحارق امام المعمل الذي يسحب منه بعض المواد المعدنية ويستخدم الباقي مع اسفلت الطرق.
*رئيس حزب البيئة اللبناني
جريدة "السفير" اللبنانية