في مثل هذه الفترة من العام الماضي، وبعد أن نشرت "السفير" تحقيقا وصورا عن "مجزرة طيور البجع" في إحدى المناطق اللبنانية، وقيام بعض الناشطين البيئيين بنشر الموضوع عينه على مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" و"تويتر"، وصلتنا رسالة عبر البريد الالكتروني من هنغاريا من الخبير والناشط البيئي ماتياس برومر Matthias Prommer وهو مسؤول عن دراسة هجرة الطيور الأوروبية وتتبع مسارها عبر الاقمار الاصطناعية لمعرفة سلوكها وطبائعها لتحديد أسباب تراجع أعدادها.
كانت الرسالة عبارة عن مناشدة قال فيها برومر "أوقفوا قتل طيورنا في لبنان"، وتمنى أن نبلغه عن طائر بجع (لقلق) يدعى "أباتش"، لافتا إلى أن أجهزة الالتقاط المتصلة بالأقمار الاصطناعية تؤكد أن "أباتش" لم يغادر لبنان، وقال "لقد هالني رؤية الصورة على صفحتكم وفيها عشرات طيور البجع المقتولة ورجال يتباهون بما اقترفوا"، وبعد أسابيع عدة، أفادنا برومر أن "أباتش" غادر لبنان، ونجا من بنادق الصيادين.
قبل نحو أسبوع وصلتنا رسالة ثانية، يبلغنا فيها برومر أنه تم أسر طائر لقلق (بجع) في محافظة قنا المصرية (تبعد حوالي 450 كيلو متر جنوب شرق القاهرة)، وقال أن اللقلق ويدعى مينيس Ménes "اعتقل" لاشتباههم باستعماله في التجسس، إذ قام أحد السكان بالتقاط الطائر بعدما رأى جهاز GPS موضوعا على ظهره، ظناً منه أنه جهاز تجسس وقام بتسليمه الى السلطات المصرية التي تحققت من الامر وتأكدت ان الجهاز تقتصر مهمته على تتبع مسار الطائر، وتعرفت "جمعية علم الطيور وحماية البيئة" في هنغاريا على اللقلق من الصور التي نشرت في الصحافة واتصلت بالسلطات المصرية لتوضيح المسألة والإفراج عنه ليتابع مساره.
ما تجدر الاشارة إليه في هذا السياق أن الصحافة العالمية راحت تتسقط أخبار اللقلق، وتحول مادة إعلامية لكثير من وكالات الانباء، لا سيما بعد أن "أفرجت" عنه السلطات المصرية، وبالفعل تعزز الأمل بعودة "مينيس" سالما إلى هنغاريا. لكن حدث ما لم يكن في الحسبان، فقبل يومين، أشار مسؤول في الجمعية الهنغارية إلى أن ناشطين بيئيين في مصر أبلغوها أن شخصا اصطاد "مينيس" وانتهى به الأمر إلى مائدة أسرة مصرية، بالرغم من أن "اللقلق" لحمه غير مستساغ ولا يحبذ تناوله، وفي لبنان يتم اصطياده بأعداد كبيرة ولا يؤكل، وبعضهم يأنف لحمه كونه يقتات على الجرذان والأفاعي.
نقدر صدمة الناشطين الهنغاريين، وضياع جهودهم المضنية في دراسة طيور اللقلق التي تهاجر وتعود إلى أعشاشها على أسقف السطوح في الريف الهنغاري لتضع بيوضها وتؤمن ديمومة حياتها، دون أن يتعرض لها أحد، وهي من الطيور المحببة في الدول الأوروبية، حتى أن المزارعين يقومون بمساعدتها في بناء أعشاشها كونها تقتات على الفئران التي تلحق الضرر بمزروعاتهم، فضلا عن الكثير من الحشرات الضارة.
لكن في المقابل، كم هو رائع تسخير الفضاء الافتراضي (أي الانترنت) بيننا كبشر لصالح قضايا البيئة، تماما كما هجرة الطيور إلينا تقطع الحدود والممرات والمعابر دون حواجز صنعها البشر وكبلوا أحلامهم بها وصارت موضع صراع بينهم وحروب لا تنتهي. وكم رائع أن نتخذ من "مينيس" وآباتش" مثالاً لنصوب من خلالهما أخطاءنا ونحافظ على التوازن البيئي على كوكب نعيش جميعا بين ظهرانيه.
لكن هل تكفي كلمة عزاء لصديقنا برومر؟!
أنور عقل ضو