"غدي نيوز"
في عام 1862 كشف الرحالة يوري كوشيليفسكي، الذي كان يدرس المناطق الشمالية الغربية لسيبيريا، عن وجود بقايا لمدينة تعود للقرون الوسطى على ضفة نهر مانغازيكا، وهذه المنطقة الأسطورية بالتحديد كانت تعتبر واحدة من مراكز التجارة الأكثر أهمية في شمال البلاد، حيث تم تأسيسها في ما وراء منطقة القطب الشمالي المتجمدة في الفترة ما بين القرن السادس عشر والقرن السابع عشر.
وعلى الرغم من البيئة القاسية ازدهرت ونمت مدينة مانغازيا، لكن سكانها غادروها بعد 100 عام. والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا حدث ذلك؟
نعود قليلاً إلى التاريخ، فمنذ القرن السادس عشر بدأ المستكشفون الروس غزو مساحات شاسعة من سيبيريا، حيث ظهرت في هذه الأراضي غير المأهولة عشرات من المستوطنات كمراكز لمزيد من التشجيع من أجل استكشاف المناطق الشرقية الأخرى، يشار إلى أن بعض هذه المراكز بقيت حصوناً عسكرية حصراً، أما الأخرى فتطورت وتحولت إلى مدن ومراكز تجارية تزدهر فيها المهن اليدوية وبعض أنواع التجارة الأخرى، ومن بين هذه المراكز التجارية الغنية كانت مانغازيا.
وفي هذا الإطار كتب المؤرخ الروسي ميخائيل أوبولينسكي قائلاً: "لقد كانت مانغازيا منذ القدم عبارة عن كنز حقيقي حاول جميع سكان المناطق الشمالية الوصول إليها للحصول على الفراء الثمين".
مدينة تغلي بالذهب
وعن ثروة هذه المدينة حيكت الأساطير العديدة، وكان يقال بأن الذهب كان يتدفق كالنهر ولذلك أطلق على مانغازيا بأنها مدينة تغلي بالذهب. المعروف بأن التجار خلال سبع سنوات فقط من عام 1630 وحتى 1637 تمكنوا من بيع نصف مليون قطعة جلد من حيوان السمور الثمينة خارج المدينة إلى المناطق الروسية الأخرى وإلى أوروبا الغربية عن طريق ميناء أرخانغيلسك.
ويشير المؤرخون إلى أن الثلث الأول من القرن السابع عشر شهد ذروة ازدهار مدينة مانغازيا، حيث ظهرت بشكل واسع المباني السكنية الجديدة والمستودعات والحظائر والكنائس.
وقد مارس مواطنو تلك المدينة، بالإضافة إلى التجارة وتحضير الفراء، مهنة الصيد والحرف اليدوية المختلفة. كما أن مانغازيا ساهمت إلى حد كبير في تاريخ الاكتشافات الجغرافية الروسية، فمن هناك انطلقت فرق الاستكشاف للبحث عن أراض جديدة، والذين قاموا بتحديد خريطة ياقوتيا وشبه شبه جزيرة تايمير وخرائط لشواطئ الأنهار السيبيرية الكبيرة كنهر ينيسي ونهر لينا.
ولكن بعد بضعة عقود تغير الوضع بشكل ملحوظ، حيث بدأ المستوطنون الهجرة نحو الشرق، وظهرت في سيبيريا مراكز تجارية جديدة. بطبيعة الحال لم تتمكن مانغازيا المنافسة مع هذه المراكز وذلك لأن حيوان السمور بدأ ينقرض شيئاً فشيئاً في جميع أنحاء المدينة وحولها. ونتيجة لذلك أوعز القيصر ألكسي ميخائيلوفيتش بتوطين سكان هذه المدينة والثكنة العسكرية على ضفاف نهر ينيسي، حيث تم بناء مدينة مانغازيا الجديدة والتي تدعى حالياً ستاروتوروخانسك، ومنذ ذلك الوقت انقرضت مدينة مانغازيا عن الوجود.
إجابات لجميع الألغاز
ومع مرور الوقت بدأ العالم ينسى مدينة مانغازيا. ولكن بعد اكتشاف كوشيلفسكي لتاريخ هذه المدينة المشرق والقصير أصبحت مرة أخرى محط اهتمام المؤرخين وعلماء الآثار، مع الإشارة إلى أن الوثائق الأرشيفية لم تعط إجابات لكثير من الأسئلة. على سبيل المثال فقد أكد بعض الباحثين بأن مانغازيا لم تكن مدينة وإنما عبارة عن مركز صغير محصن.
تمكن العلماء الحصول على إجابات لجميع الألغاز التي كانت محيطة بهذه المدينة بعد القيام بحفريات واسعة النطاق من قبل علماء الآثار السوفييت عام 1968، حيث اتضح بأن مانغازيا كانت مدينة يقطن فيها 1000 نسمة. وشأنها شأن بقية المدن الروسية في القرن السابع عشر، انقسمت مانغازيا إلى حصن الكرملين والأحياء السكنية، علماً أن الخبراء أشادوا بجودة تصميمها. فالقلعة كانت منفصلة عن الأحياء السكنية، والتي هي الأخرى كانت مجزأة إلى مناطق تزدهر فيها الحرف اليدوية وأخرى تجارية. في حين أن الشوارع كانت عبارة عن ألواح من الخشب، وبين المحلات التجارية كان هناك فناء كبير محاط بعشرات من المستودعات والحظائر.
يمكن القول أن علماء الآثار شرعوا بأعمالهم في الوقت المناسب، لأن النهر بدأ بمده الواسع نحو الضفاف التي كانت في يوم من الأيام موقعاً لـ"مانغازيا".
ثلث أراضي المدينة أصبحت تحت الماء
وبحسب تقدير الأخصائيين، فإن ثلث أراضي المدينة المنقرضة أصبحت تحت الماء بحلول عام 1968. ولكن على الرغم من ذلك كانت هناك أنباء جيدة، فبفضل الأجواء القطبية السرمدية تم الحفاظ على بقايا الهياكل الخشبية والمعالم الأثرية.
وقد اعتبرت هذه الظروف من وجهة نظر الآثار، مثالية لإجراء الدراسات والأبحاث المفصلة والدقيقة عن مدينة مانغازيا.
وقد سمحت المواد التي تم استخراجها من إعادة بناء مراحل تاريخ هذه المدينة بدقة. وعليه فإن الاكتشافات الأثرية الناتجة عن الحفريات أصبحت واحدة من أهم مصادر دراسة المدن السيبيرية في الفترة ما بين القرن السادس عشر والقرن السابع عشر ميلادي.
بتصرف عن "صوت روسيا"