"غدي نيوز"
أنور عقل ضو -
أهدى الأديب والقاص سعيد تقي الدين (1904-1960) كتابه "ربيع الخريف" (صدر عام 1954 وهو مجموعة قصص قصيرة) إلى والدته، وكتب "إلى التي أحيت في بلدتي (بعقلين) أرضاً بواراً، فزرعت سندياناً لن ترى هي ولن أرى أنا أغصانه... إلى أمي هذي الصحائف".
هذا الإهداء بما يتضمن من قيمة وجدانية، يمثل قمة العطاء الإنساني، أي عندما يزرع المرء لأجيال لم تولد بعد، وبرأيي أن أي عمل بيئي لا يكون حاملا هذا النزوع الغيري يكون تجديفا وملهاة، ولزوم ما لا يلزم، وترفا آنياً لا أكثر ولا أقل.
في متابعة جهود السيدة منى خليل (67 عاما) وهي ترعى السلاحف البحرية عند شاطىء المنصوري (قضاء صور) منذ أكثر من عشرين عاما، بدا أن أوجه الشبه بين والدة الأديب سعيد تقي الدين ومنى خليل كبيرة، فالأولى زرعت لأحفاد أحفادها سنديانا لن تتفيأ ظلاله، والثانية أطلقت صغار السلاحف قبل شهر ونصف الشهر لن تراها أبدا في عودتها لتضع بيوضها بعد ثلاثة عقود، وودعتها قائلة: "ستعودين بعد 25 أو 30 عاما ويومها لن أكون موجودة".
في ما نشهد من نشاط بيئي نرى أن قلة قليلة تعمل وفق هذا المنظور وتزرع الخير والحب لأجيال قادمة، والبيئة بهذا المعنى استشراف لمستقبل لا "ادعاء" في لحظة وحاضر، ولا تنظير يقعدنا عن العمل، ويبقينا أسرى أنانياتنا ونتسابق لنطل عبر الفضائيات ووسائل الإعلام ندعي بطولات وهمية، فالبيئة ليست صراخا فحسب، وإن كان مطلوبا في لحظات تفرضها التحديات التي نواجه، البيئة أن نعمل بصمت وتفانٍ، كما رعت منى خليل سلاحف البحر، وناضلت لتكرس شاطىء المنصوري حمى طبيعية، وظلت وما تزال ضنينة بالكلام إلى وسائل الإعلام، فطوال السنوات العشرين الماضية لم تظهر إلى دائرة الضوء، فقط هذه السنة أطلت عبر وسائل الإعلام لتحمي هذا الشاطىء بعد أن هدده مشروع سكني "سياحي"، مخالف لكل الشروط البيئية، ويمثل فضيحة رسمية وإدارية، مع من سهّل وأمّن حماية من يهدد الشاطىء بدلا من أن يؤمن حماية التنوع الحيوي، في منطقة اتسمت بجمال البحر وروعة الشاطىء المترامي الأطراف.
إن من يعنى بالبيئة عليه أن يسأل نفسه أولا: ماذا سأترك لأجيال قادمة؟ وكيف سيتذكرني من لم يولدوا بعد؟
أما إذا نظرنا إلى سياسة الدولة حيال البيئة، مع ما نشهد من فساد يبدأ من ردم البحر بالنفايات إلى كل أسباب التلوث، وصولا إلى تراجع الغطاء الأخضر ودعم مافيات الكسارات والنفايات... الخ فستطل الأجيال المقبلة لتلعن دولة زرعت الفساد ودمرت بيئة لبنان.