"كنت آتي كلّ عطلة أسبوع مع أصحابي إلى هنا، أشاهد فيلما سينمائيّا ومن ثم آكل سندويش من عند (خيّاط) ...". للحمرا طقوس لدى كلّ نفس لبنانيّة هرمة كانت أم شابّة. هكذا يتذكّر نعيم صالح - صاحب مكتبة في زاوية قديمة من الحمرا أيّام شبابه فيها: "الحمرا تراث ... " يردد بين حين وآخر.
هو شارع واحد، فيه تختزل الروح اللبنانيّة. في كلّ زاوية منه ذكرى أو "خبرية". فعلى طول الــ 1800 متر حركة دائمة وضجة وصخب حياة. عشّاق مدينة الحمرا كثر، لبنانيون، عرب وأجانب. فهي موطن أولئك الذين بعثروا شبابهم بين المقاهي القديمة والمسارح وصالات السينما، وملاذ الشباب الذي يقصدها بهدف الراحة والإسترخاء.
"الحمرا" كلمة من ستة حروف، إنما تحمل في بعضا من تاريخ لبنان، وبقايا من زمن غابر. فمع هذه الكلمة الصغيرة ثمة بحر من الكلمات، هي إمراة كنت وما زالت في أوج شبابها. وكأنّ هذه المدينة – الشارع بنيت على صورة الإنسان من كثرة ما تضم من عالمه، قصصا، صرخات ألم ووجع، توق للقديم الذي انتهى، ثقافة ومثقفين، جميعها كلمات توضع في حقل معجمي واحد بعنوان "الحمرا".
"الحمرا هي قلب بيروت النابض وهي كلّ ما بقي لنا من شبابنا ... تذكرنا به" هكذا وصف إبراهيم عيد "الحمرا"، معبّرا عن أسفه لخسارة هذه المدينة الكثير من معالمها "هون بالحمرا كتير إشيا راحت، شي بزّعل، كان في سينما حمرا وكافيه دي باري... الحمرا كانت أجمل بكتير ...". وكأنّ معمّري الحمرا إذ صحّ القول يكنون للحمرا حبّا بلا حدود، كحبّ الرجل لإبنه المريض. فهذه المدينة التي فقدت الكثير من جمالها بالنسبة إليهم، ما تزال منقوشة في قلوبهم ومحفورة في عقولهم ولو اختلفت عما كانت عليه من قبل.
الحمرا: قصة وحكاية
حكاية هذا الشارع غريبة نوعا ما، فالمصادر التاريخيّة تشير إلى أن لظهور هذه "المدينة" حكاية وقصة خاصّة. ففي مطلع القرن الخامس عشر ميلادي نشب نزاع بين بني تلحوق الدروز وبني الحمرا المسلمين الذين كانوا يترددون إلى بيروت لبيع منتجاتهم الزراعيّة.
نتيجة ذلك النزاع نزح بنو تلحوق من "جرن الدب " (رأس بيروت) إلى مناطق جبليّة وسيطر على المدينة بنو الحمرا. وعرفت المنطقة منذ ذلك الحين باسم "كرم الحمرا". ولو جبنا في أروقة التاريخ وصولا إلى العام 1914، عند إندلاع الحرب العالمية الأولى تبدو "مزرعة الحمرا" أو "كرم الحمرا" - التي كان سكّانها يهتمون بشجر المقساس (نوع من أنواع العنب) - كخندق ضيّق يكاد يتسع رجل واحد. وكانت أرض "مزرعة الحمرا" عبارة عن رمال حمراء حارّة، تحرق أرجل سالكيها في الصيف وتتحول إلى أنهار وحل في الشتاء.
مع نشأة شارع الحمرا ألف قصّة غريبة ومع قاصديها المعتادين غرائب كثيرة. فترى في شارعها الرئيسي أناساً يشكّلون بذاتهم "عرفاً" من دونه تفقد الحمرا بعضا من خصوصيتها.
على بعد ثلاثين مترا من مقهى "كوستا" الجديد إمرأة في العقد الخامس من عمرها. سيّدة طراد، التي تجلس كلّ يوم على عمود مواجه لمتجر ثياب "أنا إذا بغيّر موقعي بغيّر بالعواميد ..." تقول السيّدة ممازحة. هي تأتي كلّ صباح إلى الحمرا كي لا تشعر بالفراغ نتيجة طلاقها لمهنة التعليم. تصطحب معها الجريدة وتجلس على أحد الأعمدة الصغيرة، وتفند العناوين المقالات لغاية الساعة الثالثة "لي مع هذه المدينة علاقة عزيزة جدّا على قلبي ... فهي المدينة الوحيدة التي حافظت على معالمها منذ الحرب الأهليّة لعام 1975 في لبنان". تنسى السيّدة طراد في حضن هذه المدينة ألمها لوفاة زوجها ليكون ذلك العامود نديمها وحركة الشباب في الشارع، وكأن ثمة حركة وصخب في داخلها.
أين أصبحت الحمرا ؟
أمّا محمود أبو الحسن، صاحب كشك جرائد، يحتل القرنة ذاتها منذ 20 سنة حتى اليوم. أبو الحسن، أطلق العنان لألمه على الحمرا بشكل خاص وعلى بلاده لبنان بشكل عام "الناس في حالة يأس والدليل على ذلك تراجع الحركة في هذا الشارع الذي ترعرعت فيه واعتدت على رائحته ...". رأى محمود أن السياسة والسياسيين في هذا البلد هم مصدر خرابه، لا بل يؤكد أن "لبنان كان لؤلؤة الشرق والآن انقلبت المعادلة ... أين أصبح لبنان؟ أين أصبحت الحمرا؟". صرخة وجع أطلقها عبر "منبر" صغير، مسجّلة صوت. "الحمرا كانت سينما، كانت عالم... كانت الناس مرتاحة قبل الأحداث السياسية، اليوم ... هلّق كلّو راح (...) وما حدا عم بحافظ على هالشارع ... لبنان جنّة بسّ قدرنا نبقى معاقبين". إلى ذلك، لفت الرجل إلى تراجع الإقبال على الجرائد بنسبة أقل ما يُقال عنها أنّها كبيرة، محمّلا السياسة والأوضاع السياسيّة وزر ذلك.
عند باب مقهى "ستاربكس" الأمامي، رجل مسنّ جدّا يبلغ من العمر 91 سنة. يجلس على كرسيه ويقدم لمن يدخل المقهى قطعا من شوكولا "باتشي"، ويقول "زوجتي توفيت منذ ومن طويل وابنتي مها سافرت إلى بريطانيا أمّا أنا فبقيت هنا بمفردي ووجدت في هذه المدينة راحتي و فرحي". هكذا يشرح عمّو عفيف مكوثه في البقعة ذاتها لمدة ساعات على كرسي الحديدي قابع على رصيف الشارع "أراقب المارّة والفتيات الجميلات"، ويتابع ممازحا "وعند حلول الساعة الثانية بعد الظهر أتوجه إلى مطعم بربر لأتناول وجبة الغداء". يقصّ هذا العجوز لنا حكايا عن شبابه في مختلف بلدان العالم ليختم حديثه بأربع كلمات "بسّ بيروت بتضلّ بالقلب".
كلّ الحياة في شارع واحد
تمثّل الحمرا محطّة لاولئك الذين يشتاقون لنفوسهم الشابة. لكّنها مثقله بآلام آخرين ينامون في أزقتها يقتاتون من شفقة الآخرين مالا بسيطا لتحصيل لقمة العيش. فيها يجوب الفقير والمريض والمسنّ حاملا سلعا بسيطة لتأمين المال ولقمة العيش، والبعض الآخر في شكله ومظهره معالم بؤس وقهر. فيها يتمشى العشّاق وطلاب الجامعات والمدارس. يؤمّها الصحافيون والمصورون لينسجوا منها زوادة مادية تغذي الذاكرة. الحمرا هي كلّ الحياة في شارع واحد. هي كلّ لبنان في شارع واحد".
"قبل كنّا نروح عالهورس شو من أفخم القهاوي كان، كلاّ عالم زوات (...) وبسّ يخلص الفيلم كانت العالم بهالشارع الكتف بالكتف" يقول نعيم صالح، ويضيف "عم بجربو يجملو الحمرا ويستحدثو إشيا جديدة (...) بسّ ما في شي برجع التراث". ويقول "نتمنى على دولتنا العزيزة بما إنّو ما في شي برجع التراث أن تحافظ على ما بقي من حجار قديمة ومبان قديمة ومسارح في الحمرا وخارج مدينة الحمرا".