تحقيق – أنور عقل ضو
لو علم المزارعون حجم المنافع التي يسديها اليهم طائر البوم لامتنعوا عن استخدام المبيدات الحشرية الشديدة السمية، ولتغيرت نظرتهم الى هذا الطائر اللاحم الذي يغتذي على القوارض والزواحف، وتحولت من اعتباره نذير شؤم ليصبح في عرفهم فأل خير، بعيدا من الموروثات الشعبية التي ظلمت البوم مذ ربط العرب قديما وجوده بالخرائب والاطلال بعد أن يغادروا مضاربهم بحثا على الكلأ والماء، اذ كان البوم يجد فيها ملاذا، لذلك كان هذا الربط التاريخي بين الخراب والبوم.
من هنا، يعد البوم في الشرق نذير شؤم، فهو يقيم على الأشجار الكبيرة العالية وفي الأماكن الخربة التي لا يرتادها الإنسان كثيراً، ويصدر صياحاً حزينا قد يخيف الناس في الليالي المظلمة، ويتوجسون خيفة من وقوع حدث سيء، أما في الغرب ولا سيما في أوروبا يرمز البوم إلى الحكمة والمعرفة، فالاساطير اليونانية تمجد البوم وتحيط به هالة من التقدير.
والبوم طائر جارح يعرف علميا باسم Strigiformes، وثمة أنواع كثيرة منه تختلف حجما ولونا، "في لبنان هناك ما بين خمسة وستة انواع، لكن اكثرها انتشارا بوم (الهامة) ويعرف أيضا بـبوم (المخازن) أو بوم (المزارع)"، يقول رئيس "مركز التعرف على الحياة البرية والمحافظة عليها" الدكتور منير ابي سعيد، ويضيف: "هذا البوم حجمه متوسط ولونه يراوح بين الابيض والذهبي، فضلاً عن وجود أنواع اخرى، منها البوم (الرمادي) والبوم (النسري) والبوم (الصغير) والبوم (الاسمر) وبوم (الاشجار الاوروبية)، وهي جميعها على قائمة الطيور المهددة بالانقراض".
وعزا أبو سعيد السبب إلى "كثرة استعمال مبيدات القوارض وقطع الاشجار والتمدد العمراني الذي غالبا ما يكون على حساب بيئة البوم الطبيعية"، لافتا إلى أن "البوم من الطيور المقيمة وتعشش في البيوت المهجورة والاشجار القديمة"، ومشيرا الى أن "ثمة انواعا كثيرة في العالم منها البوم (الثلجي) أو الأبيضُ، ويعيش في القطب ويقتات على نوع من القوارضِ اسمه (اللاموس)".
برامج تثقيفية وعلمية
يولي المركز في مدينة عاليه في برامجه التثقيفية والعلمية لتلامذة المدارس وطلاب الجامعات والمواطنين أهمية كبيرة للبوم كطائر مقيم، خصوصا لجهة أهميته في التوازن البيئي، والتصدي لخرافات وسمت هذا الطائر بالشؤم، فضلاً عن متابعة الطيور المصابة ومعالجتها واعادتها من جديد الى بيئتها الطبيعية، ويؤثر أبو سعيد التشديد على موضوع أساسي وهو أن البوم يشكل حلقة أساسية ومهمة في التوازن الايكولوجي، فيقول "إذا تراجعت أعداد البوم وندر وجوده تكثر القوارض"، بمعنى أن البوم يقضي على الفئران والجرذان ويحد من الضرر الذي تسببه وخصوصا بالنسبة للقطاع الزراعي. وأشار في هذا المجال الى أن "تناقص أعداد البوم بدأ يتسبب بأضرار كبيرة على المزارعين وكوارث كان آخرها ما حل بأشجار التفاح في شمال لبنان التي قضت عليها الفئران"، لافتا إلى أن "هناك قوانين في الطبيعة وجب احترامها".
وقال: "في العالم ثمة أنواع قليلة من البوم وضعت على قائمة الطيور المهددة بالانقراض، فيما أنواع كثيرة بعيدة من خطر تراجع اعدادها، لكن الوضع في لبنان مختلف بسبب المدى الجغرافي الصغير وتوسع رقعة البناء والزراعة المكثفة، ما يستدعي دق ناقوس الخطر لان البوم في لبنان على شفير الانقراض، وتترتب على هذا الامر نتائج سلبية، فالبوم الابيض أو بوم الهامة يقتات على كميات كبيرة من الفئران، خصوصا عندما تكون لديه فراخ صغيرة فيضاعف صيده لاطعامها".
لافتاً إلى أن "الخطر الاكبر يتمثل في الاستخدام العشوائي للمبيدات التي تؤدي الى نفوق البوم فضلاً عن الحد من تكاثره لان المبيدات تؤثر ايضا على البيوض وتقضي على أفواج جديدة منه"، وقال: "اننا نحث المزارعين على استخدام أنواع من المبيدات لا يبقى لها أثر في الفئران النافقة بحيث نخفف بعضا من الضرر على البوم، اضافة الى اننا نشدد على عدم قطع الاشجار اليابسة التي يستوطن فيها البوم".
واضاف: "البوم يكاد يكون موجودا في كافة المناطق اللبنانية، ولا سيما قرب مزارع الدواجن والمساحات الزراعية، والغريب في هذا المجال أنه عثر على طائرين في بيروت قرب المدينة الرياضية مع فراخهما، وتم ابلاغنا فتوجهنا وقمنا بنقلها الى المركز لرعايتها والاعتناء بالفراخ حتى كبرت، وقمنا قبل فترة وجيزة بإطلاقها جميعها في البرية، لكن للاسف دائما يحضر مواطنون ومهتمون الى المركز طيورا مصابة بطلقات نارية، صحيح ان البوم طائر ليلي لكن الصيادين يفاجئونه نهارا فيطير هربا ويطلقون النار عليه رغم علمهم ان لحمه لا يؤكل".
وأكد أن "الانواع الصغيرة من البوم لا تقل فائدتها ايضا اذ تقتات على الحشرات والزواحف".
رمز للحكمة والمعرفة
وفي أوروبا ثمة واقع مختلف، لان البوم يعامل كرمز للحكمة والمعرفة، ويعرف بـ "طائر الحكمة"، الذي كانت إلهة الحكمة الإغريقية "أثينا" تحمله دائما على كتفها، ففي غابات ولاية الراين الشمالي فيستفاليا تعيش أعداد كبيرة نسبيا من البوم، وتتنقل يوميا بين بلدتي هايمباخ بلينز وهايمباخ هاوزن بالقرب من مدينة آخن الحدودية مع هولندا وبلجيكا. ولأن عددا من البوم يصطدم بالسيارات السريعة المارة على الشارع رقم 249، الذي يمر بين البلدتين المذكورتين، ويلقى حتفه، فقد طالبت جمعية الرفق بالحيوان بتحديد السرعة على الشارع.
بلدية مدينة آخن، التي كانت تود توسيع الشارع المذكور ضد رغبة جمعية الرفق بالحيوان، توصلت إلى اتفاق قبل ثلاثة أشهر مع الجمعية يقضي بتحديد السرعة على الشارع، مقابل عدم الاعتراض على توسيعه. وهكذا كان، وتم تحديد السرعة على الشارع بـ50 كيلومترا في الساعة.
دراسة أجنحة البوم لتطوير طائرات هادئة
وتجدر الاشارة في هذا المجال إلى أن طائر البوم، يحظى حالياً باهتمام الباحثين في مجال هندسة الطيران والسيارات والكاميرات، أو ما يعرف بـ "علم البيونيك" وهو علمٌ يقوم على محاكاة الباحثين للطبيعة في مجال التكنولوجيا.
يُسمع صوت البومة بوضوح في الليل، لكنْ، لا يُسمع صوتُ جناحيه حين يطير وينقض على فريسته، بينما يُسمع صوت أجنحة الحمام والطيور الأخرى بوضوح، لكن الأمر سيان بالنسبة للحمام إن سمع أحد صوت رفرفة جناحيه حين يطير أم لا، أما البوم فسماع صوته وهو يطير يشكل بالنسبة إليه مسألة حياة أو موت، لأن الفريسة قد تهرب وتختبئ إذا سمعت صوت جناحي البوم. ويعلل علماء الاحياء ذلك بأن البوم يصطاد في الليل حيث تكون المعلومات المرئية محدودة. لذلك تخصص البوم بتحديد مكان فريسته عبر حاسة السمع، وهذا ممكن فقط إذا طار بشكل غير مسموع".
ودرس علماء مع بداية هذا العام ديناميكا الهواء لجناحي بومة حين تطير ولاحظزا أن وزن البوم يساوي وزن الحمامة، إلا أن جناحيه أطولُ بكثير من جناحي الحمامة وأكثرُ انحناءً، ويؤكدون أن هذا يتيح للطائر الارتفاع بشكل أفضل في الجو حتى مع سرعة بطيئة، في حين يتوجب على الطيور الأخرى الرفرفة بأجنحتها أكثر كي تبقى في الجو. وبذلك يقل احتكاك الريش ببعضه البعض فلا يُسمع لأجنحة البوم ضوضاء تقريب".
ولا يقتصر الأمر على طول الجناحين وشكلهما المنحني، بل إن ريش البوم يختلف عن ريش الحمام والطيور الأخرى، فمقدمة ريشة الجناح تكون معقوفة قليلا وسطح الريشة أملس جدا، وهذا يؤثر على انسياب الجناح بشكل يجعل تيار الهواء يلتصق بالجناح ويقلل من الاضطرابات أثناء الطيران.
وكوْنُ الريش معقوفا في المقدمة والسطح الأملس يحولان دون حدوث اضطرابات. وهذا يساعد على تدفق التيار الهوائي وانسيابه والذي يؤدي توقفُهُ إلى سقوط الطائرات. طبعا لا يمكن نسخ ُ هذه الخصائص لجناح البوم وتطبيقها على جناح الطائرة، لأن سرعة البوم، حين يصطاد، تبلغ عشرةَ إلى خمسة عشرَ كيلومترا في الثانية فقط، لكن يمكن الاستفادة من المبادئ الفيزيائية لإنتاج المراوح وألواح لطواحين الهواء وتوربينات هادئة لا تحدث ضجيجا.
ولقد استفادت صناعة الطيران من أجنحة الطيور الأخرى من خلال ما يسمى بالجنيحات الصغيرة التي تقلل الدوامات الهوائية. هذه الدوامات تبقى لعدة كيلومترات خلف الطائرة وتسبب اضطرابات شديدة في الجو وتقلل بالتالي من سرعة الطائرات. وقد نسخ المهندسون هذه الجنيحات الموجودة فوق جناح الطائرة من أجنحة الطيور الكبيرة مثل النسر والعقاب واللقلق. وعندما يطير أحد هذه الطيور تنشأ في مقدمة الريشة دوامة هوائية صغيرة وهذا يقلل من مقاومة الجناح.
لكن البوم لديه أكثر من ذلك، فلكي يتمكن من سماع حركة فريسته، يوجد لديه حول الوجه والصدر ريش يشبه الحجاب لالتقاط الصدى بآذانه غير المتناظرة، لأن أذنا تكون موجهة ًإلى الأعلى في حين تكون الأذنُ الثانية موجهة إلى الأسفل.