*حبيب معلوف
"لينظفوا أمام أبوابهم قبل ان يبحثوا في تنظيف الكوكب". هكذا علّق جارنا المتقاعد على قمة التنمية المستدامة في الريو، قبل ان يعرف نتائجها. قد يكون حكم جارنا قاسيا، الا انه لا يخلو من الواقعية. فهذا التوصيف يختصر فعلا حال الكوكب وما وصل اليه وحال الأزمات العالمية الاقتصادية والأمنية والبيئية معا. فلمعرفة نتائج القمم العالمية التي تتعلق بالبيئة والفقر والمناخ سلفا، كان يجب ان نعرف أولا ما هي سياسات كل دولة في الاقتصاد والاجتماع والبيئة. وكون كل دول العالم، دون استثناء، تمر في أزمات متنوعة ومتشابهة بشكل او بآخر، يصبح المطلوب تغيير شعار الخضر التاريخي "فكّر عالميا واعمل محليا"، بشعار "فكّر واعمل محليا وعالميا، بعد ان تغيِّر في طرق تفكيرك وأساليب عملك التي أوصلتك الى الكوارث".
تصح نظرية جارنا المتقاعد على كل حكومات العالم، وخصوصا على الحكومة اللبنانية، التي ذهبت الى الريو (سياحة) ولبنان يعاني من أزمات لا مثيل لها في العالم في نقص الطاقة ومن فشل مزمن في وضع سياسات مستدامة للنقل وسوء إدارة للمياه، وتدهور مستمر في غطائه الأخضر وفوضى في ترتيب الأراضي وعشوائية في البناء وتلوث في هواء مدنه تفترض منع التجوال لأكثر من مئة يوم في السنة وفساد في الإدارة... بالإضافة الى الأمراض الطائفية والنفسية والبنيوية... الخ
وضع حكومات العالم ليس بأفضل بكثير من لبنان من الناحية البيئية (الا في وضع بنية الدولة ووجودها وادوارها). وهذا ما يظهر في اية مفاوضات دولية حول قضايا البيئة العالمية وحال الكوكب. فحسابات البرامج "الوطنية"، او المحلية، تختلف تماما عن الحسابات الكونية والكوكبية. ولذلك يجد المتحاورون من ممثلي الدول، في كل جولة مفاوضات عالمية، ان هناك استحالة للوصول الى "رؤية مشتركة"، بالرغم من ان الجميع يعيش على كوكب واحد. مما يعني ان العالم بحاجة الى فلسفات جديدة عابرة للحدود الجغرافية والثقافات والقوميات والاتنيات والحضارات. وكنا نتوقع، مع كثر في العالم، ان تغير القضايا البيئية التي طرأت على العالم، لاسيما اكبر قضية تواجه البشرية كتغير المناخ، ان تساهم هذه القضية في احداث ثورة عالمية وتغير في التفكير وأساليب العيش وفي النموذج الحضاري المسيطر على الأقل. الا ان ذلك لم يحصل حتى الآن، أي حتى القمة الأخيرة التي أنهت أعمالها منذ أيام.
لم يتطرق الإعلان الختامي لقمة الريو لقضية تغير المناخ، اكبر قضية تواجه كوكب الأرض، والتي وضعت من اجلها اتفاقية اطارية منذ 20 سنة في قمة الأرض الأولى!
كانت الانبعاثات العالمية العام 1992 ما يقارب 21 مليار طن من ثاني اوكسيد الكربون. اليوم، بعد 20 سنة على القمة الاولى، أصبحت الانبعاثات العالمية ما يقارب 30 مليار طن سنويا. فبدل ان تنخفض الانبعاثات 60 بالمئة كما كان مأمولا منذ 20 سنة، ارتفع معدلها الى أكثر من 40 بالمئة! وهذا احد اهم معايير تقييم نجاح قمة الأرض "السياحية" في الريو. وقد بات مسلَّما الآن، ان أحدا لا يستطيع ان يوقف ارتفاع درجات حرارة الأرض الى أكثر من درجتين قبل نهاية منتصف هذا القرن، مع ما يعنيه ذلك من كوارث مناخية. واذ تؤكد وكالة الطاقة الدولية ان الوقود الاحفوري (لاسيما النفط) لن ينضب قبل منتصف هذا القرن على الأقل، فمن المتوقع ان ينبعث أكثر من 300 مليار طن من ثاني اوكسيد الكربون حتى ذاك التاريخ. وان ما يسمى "الاقتصاد الأخضر"، الاقتصاد غير المراهن على النفط البني والمعتمد على التكنولوجيا الخضراء، الذي اعتبر العنوان الرئيسي لقمة الريو والفكرة السحرية لإنقاذ الكوكب، سيبدو سخيفا وسطحيا جدا، في اقل تقدير، او رخيصا جدا، يطالب بحصة متواضعة في اقتصاد السوق، بدل ان يطالب بتغيير قواعده لمصلحة سلامة الكوكب والشعوب.
كان يفترض ان يعنون البيان الختامي للقمة "الفشل الذي نريده"، بدل "المستقبل الذي نبتغيه"، لان إصرار الدولة المستضيفة على الخروج بشيء، بعد ان استغلت المناسبة لرفع أسعار كل شيء وزيادة مداخيلها السياحية، وإصرار ممثلي الدول على الخروج بنص "الحد الأدنى"، يعني عدم الاهتمام إلا بتنظيم عملية الإعلان عن الفشل، وليس الاتفاق على تنظيم كيفية الخروج من الأزمات وتجنب الكوارث على أنواعها.
فعن أي "مستقبل" يتحدث البيان الختامي، في قمة وصفت بكونها "سياحية" بامتياز، وأظهرت ضعف اطر الأمم المتحدة وبرامجها كافة، ولامبالاة الدول وفولكلورية معارضة المنظمات غير الحكومية وإصرار القطاع الخاص والشركات الكبرى على الربح بأي ثمن، وضياع الخبراء بين العمل مع حكومات ضعيفة وشركات لا توظف أموالها في الأبحاث العلمية الا لتزيد إنتاجها وربحها على حساب موارد الطبيعة وحقوق العمال وموازنات الدول.
ما تفسير ان تتجاهل قمة عالمية قضايا مثل تغير المناخ وتوقع زيادة أكثر من درجتين لحرارة الأرض بالإضافة الى تجاهل الزيادة السكانية التي يمكن ان تصبح 8 مليارات العام 2050 بالإضافة الى تراجع سلامة التربة وتهديد الأمن الغذائي العالمي؟ فقضية تغير المناخ ستزيد من حدة كل المشاكل السابقة والمعروفة كالفقر والهجرة والفيضانات وشح وتلوث المياه وتهديد التنوع البيولوجي والحروب... الخ
قيل منذ اكثر من 20 سنة، ان ضبط اقتصاد السوق، وفق قواعد وقوانين الطبيعة، هو المدخل الرئيسي لحل ازمات الكوكب المتتالية والمتفاقمة من اقتصادية وبيئية واجتماعية. وقد اثبتت الايام والسنوات والقمم شبه السنوية التي تبحث في قضايا الكوكب، ان التهرب من البحث في أصل المشكلة قد زاد من حدتها حتى باتت تخرج عن أي سيطرة وتدخل في طور اللاعودة. فما الذي يفسر هذا الإصرار على المزيد من القمم الفاشلة غير وجود بعض التنفيعات الصغيرة من هنا وهناك على حساب القضايا الكبيرة؟
*رئيس "حزب البيئة" اللبناني