Saturday, November 15, 2014
"غدي نيوز"
هناك كائنات مصاصة للدماء، يُطلق عليها اسم "فامبيرليد"، تزحف عبر جزئيات التربة الممتدة تحت أقدامنا.
على بعد أمتار قليلة منك، ربما يكون من المؤكد وجود مصاص دماء يتغذى على فرائسه. ينتزع ضحيته، ويثقب جلدها، ثم يستنزف سوائل جسدها.
تجري هذه العملية برمتها في غضون دقائق لا أكثر. بعد ذلك، تُلقى القشرة الذابلة للفريسة سيئة الحظ جانباً، بينما يعكف مصاص الدماء على هضم وجبته، وربما تخليق المزيد من أقرانه.
لكن الأمر هنا لا يتعلق بمصاص دماء على شاكلة "الكونت دراكولا" الذي تروي إحدى القصص أنه كان يسعى للهجرة من موطنه بمنطقة ترانسيلفانيا الرومانية إلى انجلترا، أو على غرار تلك الشخصية التي تتجسد في عمل آخر في صورة مراهق لا يشيخ أبدا، يحسب أن الاختباء والكمون خارج غرفة نوم إحدى الفتيات يعد من قبيل السلوك المقبول.
فمصاصو الدماء هنا عبارة عن كائنات وحيدة الخلية يُطلق على الواحدة منها اسم "فامبيرليد"، تتغذى عن طريق افتراس جميع أنواع الكائنات وحيدة الخلية الأخرى، بل وعلى كائنات أخرى أكبر حجما مثل الديدان. هذه الكائنات مصاصة الدماء مفترسة وشرهة وموجودة من غابر الأزمان كذلك.
أكثر من ذلك، فإنها موجودة في كل مكان، بحسب ما كشفت عنه دراستان أُجريتا مؤخرا في هذا الصدد.
وتعود المرة الأولى التي جرى فيها الحديث عن هذه "الأميبا/الكائنات وحيدة الخلية/مصاصة الدماء" إلى عام 1865، وذلك من جانب عالم الأحياء الروسي ليون سيمينويتش سينكوفسكي، وهو أحد مؤسسي علم الأحياء الدقيقة. ففي ذلك الحين، اكتشف سينكوفسكي كائنات وحيدة الخلية ذات لون أحمر براق، وبالأحرى تشبه الأميبا.
ووجد أن هذه الكائنات تهاجم الطحالب عبر ثقب جدران خلاياها، وامتصاص ما بداخلها. وأطلق سينكوفسكي على هذه الميكروبات اسم "فامبيرلا"، ويعود ذلك بوضوح إلى إدراكه للتشابه بين ما تقوم به وعادات وسلوكيات مصاصي الدماء الذين يُطلق عليهم اسم "فامبيرز" باللغة الانجليزية.
تلا ذلك اكتشاف مجموعات أخرى من تلك الكائنات، التي تُعرف جميعا باسم "فامبيرليدز". وفي الوقت الحاضر، يُعتقد أن هذه الكائنات تنتمي إلى شعبة من الكائنات وحيدة الخلية، تتسم بالتنوع على نحو هائل، ويُطلق عليها اسم "ريزاريا" أو "الجذروات".
وعلى مدى 150 عاما، افتتن الباحثون في علم الأحياء الدقيقة بنمط التغذية المروع والرهيب الذي تتخذه هذه الكائنات. ففي عام 1926، وصفت إحدى الدراسات كيف ينتشر أحد أنواع الـ"فامبيرلا"، ويُطلق عليها اسم "فامبيرلا لاتريتيا"، على نحو جزئي "حول الخلية المنكوبة" التي ستقوم باختراقها، ثم "في غضون دقيقة أو نحو ذلك، تبدأ الجدران المستعرضة للخلية التي تتعرض للهجوم، في الانثناء تدريجياً نحو الداخل".
وعندما تتماس تلك الكائنات مع الخلية، وتلتحم جزئيا بها في نهاية المطاف، "يتضخم (الكائن الأميبي مصاص الدماء) على نحو مفاجئ" وذلك بفعل "ما يتم حقنه من محتويات الخلايا الموجودة بداخل الطحلب، إلى داخله عبر فتحة بيضاوية الشكل".
الآن، بتنا نعلم أن الكائنات من تلك الفئة لا تكتفي بمهاجمة الطحالب وحدها. فبوسع البعض منها مهاجمة الفطريات، أو حتى كائنات متعددة الخلايا، مثل الديدان الخيطية على وجه الخصوص.
وفي حالة عدم وجود غذاء كافٍ، يمكن لخلايا بعض هذه الكائنات الالتحام مع بعضها البعض لتشكيل كيانات أكبر حجما. ويمكن لمثل هذه الكيانات قطع مسافات أكبر، بما يسمح لها بمحاولة الوصول إلى مصادرٍ للغذاء تقع على مسافات أبعد.
وبعدما تأكل الكائنات وحيدة الخلية المنتمية لفئة "فامبيرلايد" حتى تصل إلى حد الشبع، يقوم كل منها بتكوين جدار صلب حوله يعرف باسم "الكيس الغشائي"، نظرا لأنه يحتوي على سوائل.
ويقول سباستيان هِس من جامعة كولونيا الألمانية إن "تلك الكائنات تقبع (بعد ذلك) في وضع ثابت، وتعكف على هضم طعامها". ويستغرق هذا الأمر يوما أو اثنين.
ويجري خلال هذه الفترة كذلك انقسام الخلية التي يتألف منها الكائن الواحد. ونتيجة لذلك، فعندما يُفتح الكيس الغشائي من جديد، ربما يكون هناك اثنان من الكائنات الأميبية مصاصة الدماء، بدلا من كائن واحد، كان موجودا في السابق عند تكوين ذلك الكيس.
وقد حاول هِس وزملاؤه التعرف على طبيعة الصلات التي تجمع بين العديد من الأنواع التي تندرج في إطار فئة الـ"فامبيرليد". وفي هذا السياق؛ قام هِس بـ"تربية" ثمانية من هذه الأنواع في المختبر، وتعرف على ترتيب الحمض النووي لكل منها.
وعلى الرغم من أن الكائنات، التي فحصها هِس، كانت جميعا تُصنّف باعتبارها من فئة "فامبيرليد"، فلم يكن هناك من يعلم ما إذا كان هناك حقاً صلة أو ارتباط بين هذه الكائنات وبعضها البعض أم لا، نظرا لأنها مختلفة تماما في ما بينها، في الكثير من الأوجه.
فعلى سبيل المثال، بينما يميل شكل الكائنات التي تنتمي إلى نوع "فامبيرلا" إلى أن يتخذ نمطا دائريا تقريبا، فإن نوعا آخر يُسمى "ليبتوفريس فوراكس" يتسم بشكل متغير ومتحور، إذ أن بوسعه أن يمد عددا من الأذرع الطويلة، أو أن يتمدد وينبسط مثل لعبة للأطفال مصنوعة من اللدائن الكيميائية (البوليمرات)، وتُعرف باسم "سيلي بوتي".
ولكن تحليل الحمض النووي أكد انتماء كل هذه الأنواع إلى مجموعة واحدة. ووجد هِس أن هناك صلة بين مجموعتين على الأقل من المجموعات المنضوية تحت فئة "فامبيرليد": إحداهما تتألف من مجموعات فرعية مختلفة من الكائنات المنضوية في إطار نوع "فامبيرلا"، بينما تضم المجموعة الأخرى؛ كائنات مثل "ليبتوفريس فوراكس".
ويبدو أن التقسيم ما بين هاتين المجموعتين قد جرى على أساس المكان الذي تعيش فيه كل منهما: فمجموعة كائنات "فامبيرلا" تعيش في المستنقعات والبرك والأوحال، بينما تعيش كائنات المجموعة الأخرى بين جزئيات التربة.
وبعد عام من تلك التجارب، مضى الباحث سيدريك برني وزملاؤه في متحف التاريخ الطبيعي بلندن خطوة أبعد إلى الأمام. فقد اكتشف هؤلاء الباحثون ثمانية أنواع جديدة للكائنات من فئة "فامبيرليد".
وتعيش هذه الأنواع؛ إما في مياه البحر أو المياه المالحة قليلا. كما تعرف برني وزملاؤه على 454 من سلاسل الحمض النووي، وهي سلاسل تعود بوضوح إلى الكائنات من فئة "فامبيرليد"، واُكتشفت في عينات جُلبت من مختلف أنحاء العالم.
ويعني ذلك أن عدد الكائنات وحيدة الخلية مصاصة الدماء أكبر بكثير مما كان يُعتقد، خاصة التي تعيش منها في البحر؛ تلك المنطقة التي لم يسبق لأحد إجراء أبحاث فيها في هذا الصدد حتى الآن.
ووفقا للتحليل الذي أجراه برني، فإن المجموعتين اللتين رصدهما هِس تشكلان جزءاً من مجموعة أكبر، ثم بدا أن هناك مجموعتين أخريين تنتميان لفئة المجموعات الكبيرة هذه، تتألف إحداهما بالكامل تقريبا من أنواع بحرية.
ولم يتم التعرف على وجود غالبية هذه الأنواع، سوى من خلال آثار الحمض النووي التي خلّفتها في المياه أو الرواسب؛ لذا فلا نزال نجهل الشكل الذي تتخذه وتبدو عليه.
ورجح تحليل الحمض النووي الذي أجراه برني أن الكائنات من فئة "فامبيرليد"، تتسم بتنوع جيني أو وراثي، يفوق ما هو قائم في كل أنواع الطحالب في العالم، على الرغم من أن هِس يتخذ موقفا متشككا في هذا الشأن، باعتبار أن التحليل الذي جرى في هذا الصدد لم يشمل سوى جين (مورث) واحد فحسب.
من جهة أخرى، ربما سيكون من العسير العثور على مثل هذه الأنواع الجديدة من الكائنات. وهنا يقول سباستيان هِس إنه بالرغم من أن الكائنات المنتمية لفئة "فامبيرليد" منتشرة "على نطاق واسع، وموجودة في كل مكان، لكنها لا توجد غالبا بأعداد كبيرة".
ويضيف أن ذلك "ربما يعود إلى أنها كائنات مفترسة يحتاج كل منها إلى مساحة واسعة لاصطياد فرائسه، أو لأن هناك شيئا ما يلتهمها بدورها".
لكن اللغز الكبير المتعلق بالكائنات وحيدة الخلية مصاصة الدماء، لا يزال يستعصي على الحل والتفسير رغم مرور 150 عاما على اكتشاف وجودها. ويتمثل هذا اللغز في الكيفية التي تتمكن بها هذه الكائنات من اختراق الجدار الصلب لخلايا الفطريات، أو البكتيريا والميكروبات، حتى يتسنى لها امتصاص أحشائها والأجزاء الداخلية منها.
فالمعروف أن مثل هذه الجدران من العسير اختراقها. فعلى سبيل المثال، تتكون جدران خلايا الطفيليات من مادة الكيتين، وهي ذات المادة التي تتكون منها الأصداف التي تغطي حيوانات سرطان البحر.
ويقول هِس: "إننا نعلم أن هذه العملية تحدث على نحو سريع. فالقيام بثقب جدار الخلية يمكن أن يتم في غضون ما بين خمس إلى عشر دقائق".
ويمكن للمرء هنا أن يتخيل أن الأمر ينطوي على استخدام ما يشبه المقص أو الهراوة، ولكن هِس يعتقد أن المسألة ربما تكون ذات طابع كيماوي. ويقول في هذا الشأن إن هذه الكائنات "لابد وأن لديها مجموعة من الإنزيمات القادرة على هضم جدران الخلايا النباتية... لقد بدأت بحث هذا الأمر".
ولا تعد هذه المسألة أكاديمية بحتة. فلدى العديد من الشركات والعلماء اهتمام بتوليد الوقود الحيوي من الطحالب؛ إذ أن ذلك سيوفر وقوداً للسيارات لا يُصدر انبعاثات كربونية على الإطلاق تقريبا.
لكن المشكلة تكمن في أنه من الصعب للغاية كسر الجدران الخارجية للطحالب، من أجل استخلاص ما هو موجود بالداخل من مواد سكرية غنية بالطاقة. وفي هذا الإطار، يقول الباحث سباستيان هِس إنه قد يتبين في نهاية المطاف أن الإنزيمات التي تحتوي عليها الكائنات وحيدة الخلية مصاصة الدماء، ذات فائدة كبيرة على أرض الواقع من أجل تحقيق هذا الهدف.
بتصرف عن "بي بي سي"
| قرّاء غدي نيوز يتصفّحون الآن |