"غدي نيوز" - أنور عقل ضو
تخطت بلدة رمحالا – قضاء عاليه مفاعيل التهجير وراحت ترصف حجارة منازلها أبعد بكثير من حدود اللحظة، مستشرفة المستقبل من بوابة الحاضر في مشاريع نموذجية أبصر أحدها النور، واعتبر بمثابة تجربة عملية لمشكلة الصرف الصحي في لبنان، ليصار إلى تعميمها في بلدات ومناطق لبنانية، خصوصا وأن المشروع يزاوج بين العصرنة والطرق البدائية، فهو يعتمد الحصى وزراعة القصب لتنقية ومعالجة المياه المبتذلة وفق معايير هندسية ودراسات أثبتت جدواها في الغرب الذي عمد إلى تبنيها كخيار بيئي يمثل تحديا في مواجهة الطرق والوسائط الحديثة في معالجة الصرف الصحي والتي تعتمد آليات معقدة وبكلفة كبيرة، ينجم عنها تلويثا كونها بحاجة إلى الطاقة للتشغيل فضلا عن تجهيزات ميكانيكية.
ما يثير الاهتمام أن تنقية المياه ترقى إلى آلاف السنين، فقد استخدمها الصينيون والمصريون، وأما استخدام أحواض لمعالجة المياه الملوثة فيعود إلى 1905 في استراليا، ولكنها بقيت قليلة الاستخدام حتى اعتمد عليها الأوربيون منذ عام 1950 بعد الحرب العالمية الثانية لندرة الموارد المالية، واستخدمها الأميركيون منذ عام 1970.
تقنية تحطيم المواد العضوية
تجدر الاشارة إلى أن وجود النباتات (وأجداها القصب) ضمن أحواض الأراضي الرطبة تشكل عبر جذورها وسوقها وأوراقها مكانا ملائما لنمو الكائنات الدقيقة التي تقوم بتحطيم المواد العضوية الموجودة ضمن مياه الصرف الصحي. كمان أن تجمع هذه الكائنات الدقيقة المتنوعة يطلق عليه اسم بيريفايتون Periphyton، ودور البيريفايتون والعمليات الفيزيائية والبيولوجية والكيميائية الطبيعية يقود إلى التخلص من 90 بالمئة تقريبا من الملوثات، بينما تقوم النباتات نفسها بإزالة بين 7 و 10 بالمئة من الملوثات، فضلا عن أن النباتات تقوم بدور المصدر الكربوني للميكروبات عندما تحلل هذه النباتات بعد موتها. إضافة إلى أن النباتات المائية تكون قادرة على استنفاذ المعادن الثقيلة وان كان ذلك بمعدلات مختلفة حسب نوع النبات.
... في موقع المشروع
من يصل إلى الموقع لا يمكن أن يعلم أن ثمة محطة لتجميع ومعالجة مياه الصرف الصحي، فليس ثمة رائحة، فقط مساحة مزروعة بأعداد كثيرة من القصب من النوع المعروف الذي غالبا ما ينمو بكثرة بالقرب من مجاري الاودية، حتى الغرفة الصغيرة الملاصقة لحقل القصب هي مجرد بناء لا يشي بوجود محطة تكرير، والاهم من ذلك إزاء هذا النموذج المميز والأول من نوعه في لبنان، بكلفته البسيطة وآلية عمله باتت بلدة رمحالا تتربع على مياه جوفية محمية تماما من ملوثات الحفر الصحية.
ولا يخفي رئيس بلدية رمحالا ميشال سعد، سروره بما يعتبره إنجازا، فهو أكد لـ "غدي نيوز" "نجاح المشروع الذي بات مقصد المهتمين من جهات أكاديمية وبلدية وبيئيين".
وعرض لكيفية إنجازه، فقال: "بينما كانت لرمحالا حاجة ضرورية وأساسية لحفر بئرٍ إرتوازية، تقدمت في هذا الوقت السفارة الإيطالية من إثنتي عشر قرية لبنانية، لتمويل وتنفيذ إثني عشر مشروعاً حيوياً لكل قرية، ومنها رمحالا، في إطار دعم عودة المهّجرين لقراهم. فاستُبدِلَ مشروع البئر الإرتوازية بمشروع نموذجي آخر يقضي بمعالجة الصرف الصحي طبيعياً، وهي طريقة لا تدخل فيها الآلة ولا التقنية، ولا تحتاج لأي نوع من الطاقة ولا الصيانة، وقد نُفذّتْ هذه الفكرة في إيطاليا وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية لأن كلفتها زهيدة. وقد وافق الإيطاليون على فكرة المشروع وأمّنوا التمويل واشرف على التنفيذ المهندس راشد سركيس مع عدد من المسؤولين الإيطاليين".
وعن ولادة المشروع وآلية عمله، قال سعد: "تولّتْ البلدية شراء قطعة الأرض مساحتها 2000 م2، واستخدم منها لصالح المشروع 1200م2 وبقي 800 م2، ستكون جاهزة في حال الحاجة لتوسيع المحطة. وتولّى الإيطاليون تنفيذ الخطوط الأساسية التي بلغ طولها 1500م، إشرافاً وتمويلاً، بينما ساهمت البلدية بمدّ الخطوط الفرعية بالتعاون مع الأهالي، وساهم كل منزل في البلدة بمبلغ 500 دولار أميركي، وأهّلت المناطق المحيطة لجهة تسوية الأرض وحفرها بعمق حوالي المتر، ووضع طبقة سميكة من البلاستيك، كي تمنع تسرّب المياه المبتذلة إلى الطبقات الجوفية، ثمّ تغطيتها بطبقة من الحصى والرمل، وزرع القصب فيها".
وقال: "إن مثل هذا المشروع قابل للتطبيق في المناطق والقرى البعيدة، الصغيرة والمتوسطة، والتي تتميز بأراضي زهيدة الثمن، فمعدل الخدمة لكل شخص يتطلب مساحة تتراوح بين 3 أو 4 أمتار مربعة، وإذا كان عدد السكان على سبيل المثال 1000 أو أكثر، فسيكون هناك حاجة لمساحة أرض تتعدّى 3000 م2، وبالتالي ستكلف مبلغاً كبيراً من المال، لهذا يمكن اعتماد مثل هذا الحل عبر استحداث عدة محطات صغيرة تؤدي خدماتها بشكل لا مركزي، وتوفر على كل بلدية وماليتها أرقاماً كبيرة. وهذا الأمر، شكّل حافزاً لبلدة القبيّات والأرز - شمالي لبنان، للإطلاع على تفاصيل المشروع والتحضير لمثله في القريب العاجل".
ونوه إلى أن "السفارة الايطالية في لبنان من خلال مكتب التعاون الايطالي هي من مولت هذا المشروع والدراسة قدمها المهندس راشد سركيس"، ولفت إلى أن "مجلس الانماء والاعمار ينجز مشروعا مشابها لهذا المشروع في منطقة الارز". وقال: "التقينا رئيس المجلس وسألنا عن نتائج هذا المشروع وأكدنا له انها نتائج ممتازة وكان متشجعا وطلب منا ان تطلعه على مستجدات في هذا المجال لانه اكد لنا انه مهتم بهذا المشروع".
وقال: "كلفة المشروع مع سعر الارض والطريق المؤدية إليه وبناء المحطة وتمديدات 1300 متر كخط رئيسي بلغت 160 ألف دولار أميركي وما نزال نعمل على الخطوط الفرعية".
تجدر الاشارة إلى أن رمحالا تمتد على مساحة جغرافية واسعة، والمشروع الحالي تستفيد منه رمحالا البلدة وعدد قاطنيها يقارب الـ 400 نسمة، وثمة دراسة لمشروع رمحالا - قبرشمون للصرف الصحي بتمويل من "مجلس الإنماء والإعمار"، ومن خلال الهيئات المانحة ومنها البنك الألماني، وسوف يتمّ إنشاء شبكة متكاملة، إضافة إلى خطوط ضخّ لجهة مدينة خلدة. واشار سعد إلى أن "قبرشمون بعيدة جغرافيا وهي تابعة لبلدية رمحالا وسيتم ربط الشبكة بمحطة الغدير عن طريق الجاذبية وتم الانتهاء من الدراسة من خلال مجلس الانماء الاعمار والبنك الالماني للتنمية بكلفة 9 مليون يورو وهي تشمل أجزاء من بلدات عين كسور والبينية وعيتاب".
الاحمدية
ورأى رئيس "جمعية طبيعة بلا حدود المهندس محمود الاحمدية أن "بلدية رمحالا حققت انجازا يعتبر خطوة ثورية في عالم البيئة". وقال: "في الماضي كان مجلس الانماء والاعمار قد اعد دراسة لـ 35 محطة تكرير على مستوى لبنان، وبكل اسف لم ينجز منها سوى محطة واحدة هي محطة الغدير وتشوبها الكثير من الاسئلة ولا تزال الى الان غير مثالية بالبعدين التقني والتطبيقي، ومن ثم اعدت دراسة ثانية لمئة محطة وظلت للاسف مجرد دراسات".
وأضاف الاحمدية: "نحن الآن أمام نموذج استثنائي، فقد تم انجاز شبكة صرف صحي وانتهت في بركة وفق دراسات علمية ومنها يخرج الخط الرئيسي بحجم 30 سم، ولم نلحظ اي اثر للصرف الصحي على امتداد ارض مساحتها 1200 م2 مكونة من مجموعة طبقات، التراب ومن ثم البحص وطبقة اخرى زرعت بأغراس القصب وهو الاساس في الفكرة، ونحن في هذا الموقع شعرنا واننا امام معلم طبيعي لا اثر فيه لرائحة او ما يشوه مجال النظر وسط القصب المزروع في حرج من السنديان والصنوبر".
وأكد أن "أهمية المشروع تتمثل في عدم تصريف المياه المبتذلة باتجاه مناطق اخرى وفي بساطة الفكرة بحيث يمكن لاي بلدة ان تنجز مشروعا مماثلا، وحسب الدراسات اذا كان عدد سكان البلدة 500 نسمة فنحن بحاجة لقطعة ارض مساحتها 1500 م2، ويمكن للبلديات ان تستفيد من الاراضي المشاعية"، ورأى أن "المشروع أهميته أنه في متناول كل البلديات".
وعما اذا كان المشروع يمكن ان يشكل حلا لمشكلة تلوث الشاطئ والتزام لبنان باتفاقية برشلونة لجهة الحفاظ على مياه البحر المتوسط، قال: "لبنان اول من وقع على اتفاقية برشلونة، وللاسف جاء في وثائقي على محطة TV5 الفرنسية ان (بيروت مزبلة البحر الابيض المتوسط)، لانه وبكل اسف يوميا هناك 900 الف م3 من المياه الآسنة الى البحر، وما تزال منطقة واحدة بعيدة عن اسباب التلوث هي منطقة البترون، وهنا أؤكد أنه اذا تضافرت الجهود على مستوى البلديات أخذا في الاعتبار التضاريس لجهة تأمين مساحات الاراضي المفترض ان تتوافر في مثل هذا المشروع نكون قادرين على التخلص نهائيا من التلوث الناجم عن الصرف الصحي، لكن بشرط وهو أن يبتعد اصحاب "الجيوب" الواسعة عن اعاقة تنفيذ مثل هذا المشروع النمودجي لانه المشروع الوحيد البعيد عن الافادة المادية الشخصية".
سركيس
صاحب الفكرة المهندس راشد سركيس، أكد أن "المشروع يقضي بمعالجة الصرف الصحي طبيعيا، وبطريقة بسيطة جدا لا يدخل فيها أي عنصر آلي أو تقني، يحتاج إلى طاقة للتشغيل أو الصيانة".
وقال: "اعتمدنا حفرة تركيد كبيرة لتأمين دخول المياه إلى الموقع بشكل سائل تماما، حيث تعبر مياه الصرف الصحي عبر الحقل المزروع بالقصب، وتخرج من الجهة الأخرى خالية من أي رائحة أو عناصر ملوثة، وتصب في بركة تجميع تساعد البلدية على استخدام المياه المعالجة حسب الحاجة. أما دور القصب فيأتي بعد أن تعبر المياه بين الحصى البيضاء الذي تحتضنه، ليمد بعدها الأول جذوره الكثيفة، مشكلا مساحة حركة أساسية للبكتيريا، التي تأكل كل الرواسب والجزئيات غير المتفككة الناتجة عن مرور المياه، بعد تعرضها للأكسدة بفعل النمط الخاص بالقصب، القادر على ضخ الأوكسيجين بفضل جذوره الطويلة. وبهذه الطريقة تنتهي مفاعيل المواد المؤذية والرائحة المنبعثة منها، وتخرج المياه من الجهة المقابلة ذات لون صافٍ، يميل بعض الشيء إلى لون معين دون رائحة أو أي مفاعيل ضارة تذكر".
ومن العوامل المساهمة في إنجاح مشروع رمحالا هو أنها اسم على مسمى، فاسمها يعني بالسريانية "تلة رمل"، وهي تقع فعلا على تلة رملية على كتف وادٍ بين أربعة جبال، كذلك تحمل لقب "جورة الذهب"، لكثرة غلالها التي تؤمن لأبنائها اكتفاء ذاتيا من أربعة مواسم، هي: الزيتون، والحبوب على أنواعها، وتربية المواشي.
وأكد سركيس أن "أي تمديدات لجر شبكة الصرف الصحي على مسافة تزيد عن كيلومتر واحد تكلف أكثر بكثير من شراء أرض لتكوين محطة تكرير طبيعية، كما يمكن تعميم هذا الحل على الكثير من القرى المتوسطة المساحة، من خلال استحداث عدة محطات، تؤدي خدماتها عبر توزيع متقن وفقا للانحدارات، لتغطية كل المساحات في البلدة، ما ينعكس نتائج إيجابية عليها. وهذا أمر شكّل حافزا لعدد كبير من البلديات للاطلاع على تفاصيل المشروع، والتحضير لاعتماده كل منها في منطقته".
وشدد على أن "اعتماد مبدأ الدرج البيئي في معظم جبال لبنان يجعل من المياه المبتذلة في البلدات التي تقع عليها منتجا مضاعفا، حيث يمكن توليد الطاقة الكهربائية منها، واستفادة الأراضي الأقل انخفاضا من الناتج المائي للري والزراعة، ما ينفي الحاجة إلى شبكات الصرف الصحي الرئيسية، وما تحتاج إليه من قنوات ضخمة، فضلا عن التخلي تدريجيا عن محطات التكرير الضخمة، التي يحتاج تشغيلها إلى كوادر بشرية وتقنية وتكاليف مادية كبيرة".