قاربت الساعة التاسعة صباحاً ونحن متجهون إلى القصر البلدي في عروس الشلال – جزين، منطقة تبهرك بجمالها الخلاب وطبيعتها الهادئة وبيئتها الرائعة، وهي ما زالت تحافظ على طابع القرية اللبناني بسماتها المعروفة، لكن مع تطور تشي به مشاريع حديثة جاءت منسجمة مع عراقتها وهي الضاربة جذورها مئات السنين في التاريخ، وليس من قبيل الصدفة أن "القصر البلدي" في عروس الشلال تم تشييده سنة عام 1898.
تقع جزين في جنوب لبنان على جبل يرتفع حوالي الـ 1200 متراً عن سطح البحر، وهي احدى اجمل المناطق اللبنانية وتتميز بشلال يلطف جوها ويزيده برودة ايام الصيف الحارة. وجزين كانت وما زالت واحدة من أهم المصايف في لبنان، يقصدها سكان السواحل ليمضوا فصل الصيف في ربوعها، خصوصا وأن طقسها موصوف من قبل الاطباء لمن يعاني من الامراض الصدرية وضيق التنفس، وعدا المقاهي والمطاعم التي تنتشر على طرقاتها يميناً ويساراً.
وجزين عريقة في مجال العمل التنموي، وقد تأسس فيها أول مجلس بلدي في عهد المتصرف رستم باشا عام 1880، وتبلغ مساحتها 223 كلم2، أما تسميتها جزين فيعود إلى كلمة من "جزئين"، إذ يمر فيها نهر يفصل بين الجبال وكأنها حاضنة لجزئين تتشكل منهما جزين، وهذا النهر ينتهي بشلال يعتبر خامس أعلى شلال في العالم، ومن هنا عرفت تاريخيا بأنها "عروس الشلالات".
موقعها الاستراتيجي
رئيس البلدية وليد الحلو أشار في حديث إلى "غدي نيوز" إلى أن "جزين منطقة عريقة مرت عليها حضارات كثيرة، ولعبت دورا مهما جداً كممر للقوافل والتجار من صيدا باتجاه الشام بسبب موقعها الاستراتيجي كنقطة وصل بين الشوف والبقاع وجبل عامل مما عزز نشاطها الإقتصادي".
وقال الحلو: "اشتهرت جزين منذ العام 1770 بصناعة السكاكين التي بدأت على يد جبور حبيب الحداد، وتسمى بالصناعة (الجزينية) وأصبحت معروفة في عدد كبير من دول العالم ولا سيما في أوروبا، ومن ثم اشتهرت في صناعة الحجر، لكن هذا الدور الإقتصادي تراجع في زمن الإحتلال الإسرائيلي حيث عاشت المنطقة فترة من الركود، وما لبثت أن عاودت نشاطها بحيوية بعد الإنسحاب، واننا كبلدية نعمل على تفعيل العمل التنموي وإقامة مشاريع لتطوير مرافقها وبناها التحتية والفوقية".
وأكد أن "جزين لعبت دورا مهما في حرب تموز (يوليو) 2006 حيث استقبلت عددا كبيرا من اهلنا المهجرين، وقدمت لهم جميع وسائل الراحة"، واعتبر الحلو أن "على أبناء الجنوب أن يكونوا جميعاً يداً واحدة في وجه العدو".
وأشار الحلو إلى أن "جزين خرجت أعلاما كثر لمعوا في عالم الأدب، السياسة والإقتصاد من الدكتور فريد سرحال إلى جان عزيز والبطريرك المعوشي الذي لقب بمحمد المعوشي لأنه من أهم الزعماء الذين طالبوا بالعيش المشترك والسلام الأهلي".
ويرى أبناء القرى والبلدات المجاورة أن "البطريرك المعوشي كان من أعظم الرجال الذين مروا بهذه المنطقة"، ويفتخرون بانتمائه لجزين لأنه "رسخ فكرة أن جزين كانت وستبقى دائماً منطقة تجمع جميع الطوائف والأديان".
وعلى صعيد انجازات البلدية، يقول الحلو: "على الصعيد الاجتماعي قامت البلدية بتقديم مساعدات للمدارس، وهي تؤمن لها مستلزمات التدفئة من مادة المازوت في الشتاء، وعملت على تعزيز البنى التحتية لجهة إعادة التأهيل، وعلى المستوى التنموي فهناك محاولات لتعزيز السياحة في جزين".
سوق جزين
وتجدر الاشارة إلى أنه تم افتتاح سوق جزين بالتعاون مع اتحاد بلديات جزين وبتمويل من الاتحاد الأوروبي وهو عبارة عن شارع يضم عدد من المحلات التجارية والمطاعم.
واوضح الحلو أن "السوق الذي يحتضن في أرجائه اليوم محالا تجارية في معظمها متخصصة في صناعة السكاكين الجزينية، وبعض محال الحلويات والزهور"، آملا ان "يسهم السوق بحلته الجديدة في تنشيط الحركة السياحية"، مؤكدا أن "جزين على موعد مع مشروع حيوي آخر، ومتعلق بترميم وتأهيل بحيرة جزين الواقعة قرب منطقة المطاعم".
ويقول: "الهدف الأساسي من المشروع هو إعادة الطابع التراثي الذي طالما تميّز به السوق، مما سينعكس إيجاباً على السياحة في جزين والمنطقة، إذ ستتوافر للسيّاح محطة جديدة فيها"، معتبرا "أن المؤشرات الإيجابية للمشروع تجلت باعادة افتتاح بعض المحال التي كانت مقفلة قبل بدء تنفيذه، وبروز بعض المشاريع الإستثمارية لمقاهٍ مميّزة لم تكن موجودة في هذا الشارع وتالياً نكون قد أحيينا شارعاً كان يعتبر منسياً ومهملاً منذ عقود فحوّلناه مركز جذب إقتصادياً وسياحياً".
جزين المهرجانات والسياحة
وأضاف الحلو: "اشتهرت جزين أيضاً بمهرجانتها، فكل سنة يقام مهرجان يجمع عددا من الفنانين والحفلات، ولكن للأسف كان هناك مشروع الشلالات قدمه المهندس ميشال سكاف، وتحاول البلدية استكمال العمل به لأنه توقف بسبب أخطاء تقنية من قبل العمال ولم يتم محاسبة المسؤولين عن هذه الأخطاء الناتجة عن الإهمال. ولكن طبعاً بالرغم من جمال المنطقة وتنظيمها فهي تحتاج بعد إلى مشاريع كثيرة، لذلك تعمل البلدية الآن على مشروع سكني ومشروع طريق، وهناك توجه لإقامة مصانع وتعزيز السياحة من خلال محاولة إنشاء مركز سياحي كبير في الصوان". وأكد "على إكمال عملية التشجير للمحافظة على طبيعة جزين وحتى الآن تم زرع 1500 شجرة وهذا المشروع سيستكمل".
الطابع القروي
وفي جولة في احياء جزين التقينا عددا من الأهالي ما زالت تسكنهم روح العفوية، تشعر معهم بالإلفة والمحبة، يفتخرون بانتمائهم لهذه المنطقة، ومستعدون للتضحية من أجلها، وجزين هي عبارة عن تمازج بين التجدد والتقليد، يختلط فيها الطابع القروي مع الطابع المديني.
وعندما تمشي في احيائها، تلاحظ أنه بالرغم من التجدد الذي شهدته في اواخر السنوات العشر الماضية، إلا أن ابنيتها القديمة، العالية، والمبنية بحجر قديم ما زالت تحافظ على الروح التراثية، وطيبة أهلها تذكرك بقرية صغيرة، فيوقفك عجوز يبلغ الستين من عمره تتعرف اليه ويرفض الا أن يسمعك بيتا من الشعر، شوارع نظيفة ومنظمة جداً تشعر فيها بنوع من الطمأنينة وكأنك فعلاً تنتمي إلى هذه المنطقة.
وبعيداً عن الابنية والسوق نتجه نحو الجبال الخضراء، لم نر في لبنان حتى الآن هذا القدر من الخضار والأشجار، هواء طلق ونظيف بعيداً عن تلوث المدينة، مساحات خضراء واسعة ترتوي من نبع جزين الصافي، مجرد النظر إليها يخلق لديك شعور من الراحة والإسترخاء، وطبعاً يحاول سكان هذه المنطقة المحافظة عليها، فالجميع يعمل يداً بيد لتطويرها على أمل تحقيق المزيد من الانجازات على مختلف المستويات الإجتماعية الإقتصادية الثقافية.
الصناعة التراثية
تتمتع جزين بسوق تجاري شامل، فيه كل ما يشتهيه المصطاف أو السائح من سلع واغراض، لا سيما الهدايا الحرفية التي يغلب عليها الطابع القروي، وهذه الهدايا المؤلفة من الشوك والسكاكين والملاعق الفضية ذات المقبض العاجي، تفتخر بها الموائد وتزدان بها واجهات البيوت لأنها تمثل الفن الحرفي اللبناني الاصيل.
ويتردد ان الرئيس الفرنسي الراحل شارل ديغول كان متيماً بهذا النوع من الهدايا وقد أهداه مجموعة منها الرئيس اللبناني الراحل فؤاد شهاب. كذلك غالباً ما يحرص الرؤساء اللبنانيون على حمل منتجات جزين كرمز وطني في زياراتهم الرسمية.
وتعتر هذه الصناعة مورد رزق لنصف اهالي جزين، البالغ عددهم حوالي 35 الف نسمة. وعادة ما يتنافس اهالي المنطقة لابتكار الاشكال والرسوم والزخرفة التي تزين القبضات المصنوعة بعض الاحيان، من قرون الحيوانات او عظامها وتأخذ شكل طاووس او عصفور او سمكة وغيرها.
ويؤكد سهيل حداد احد رواد هذه الصناعة ان "الهدايا الجزينية تعتبر من أفخم الهدايا التي تقدم للشخصيات والرؤساء وتضاهي أهميتها هدايا كريستوفل في باريس وغاليري كريستيز في لندن".
ويختلف زبائن هذه الهدايا تبعاً لسعرها وقيمتها، فالاثرياء يشترون المجموعة المؤلفة من اكثر من 100 قطعة مصنوعة من العاج او مطعمة بالذهب الخالص او الاحجار الكريمة تفوق كلفتها العشرة آلاف دولار، بينما اصحاب الدخل المحدود يختارون بعض القطع او مجموعة صغيرة تتراوح قيمتها بين المئة و500 دولار.
ولا تقتصر هذه الهدايا على قطع الشوك والسكاكين، فقط بل تشمل السيوف التي ترصع قبضاتها واغطيتها بشكل فني خاص وبزخرفته ورسوم واشكال مبتكرة، واحد منها يحمل اسم "ذو الفــقار"، كما تشمل ايضاً أدوات الزينة النسائية وأدوات المكتب من قطاعة ورق وعلاقة مفاتيح وعلب السجائر وغيرها.