Thursday, January 13, 2022
هل تركع أوروبا استجداءً للوقود؟
"غدي نيوز"
- " ياسر هلال "
هذا السؤال طرحه خبير الطاقة البريطاني بيل بلين في معرض تحليله لأزمة الطاقة الحالية، قائلاً إن "الفقراء في بريطانيا سيموتون في منازلهم خلال هذا الشتاء من البرد، وبريطانيا ستركع على ركبتيها استجداءً للطاقة من أي مكان".
وتختلف هذه الأزمة عن سابقاتها بأن سببها الرئيسي هو السياسات الهادفة إلى فرض التحول السريع من الطاقة الأحفورية إلى الطاقة النظيفة. وربما أيضاً "النكد السياسي" وتصفية الحسابات مع الصين وروسيا الذي يحكم مقاربة الولايات المتحدة وغالبية الدول الأوروبية لهذا التحول.
إذ خلقت هذه السياسات حالة من عدم اليقين واختلال التوازن في الأسواق، ترافقت مع انفلات الأسعار ومعدَّلات التضخم وبوادر أزمة اقتصادية عميقة. والأخطر من ذلك كله أن هذه الأزمة قد تؤدي إلى تقويض جهود التحول إلى الطاقة النظيفة، بسبب رفض الفئات الفقيرة والدول الفقيرة لتلك الجهود، وأحداث كازاخستان وإسبانيا قد تكون مجرد "بروفة" للأعظم الآتي.
كازاخستان "تلتهب" وفرنسا "ترتعد"
لتوضيح أسباب أزمة الطاقة وأبعادها، لا بد من استعراضٍ لمظاهرها المقلقة وغير المسبوقة التي من أهمها قفز الأسعار الفورية للغاز الطبيعي في أوروبا منذ مطلع سبتمبر/أيلول 2021، إلى نحو 20 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، أي نحو ستة أضعاف ما كانت عليه في سبتمبر/أيلول 2019. وفي أمريكا قفزت الأسعار إلى 5 دولارات، وهو أعلى سعر منذ سبع سنوات. كما استقرت أسعار النفط عند حدود 80 دولاراً للبرميل على الرغم من وجود فائض في السوق، قدّره أمين عامّ أوبك بنحو 800 ألف برميل يومياً خلال الشهر الحالي.
ارتفعت أسعار الكهرباء بأكثر من 10 أضعاف متوسط سعرها طوال العقد الماضي، وتوقع تقرير لـ"بنك أوف أميركا" "ارتفاع فاتورة الكهرباء للعائلات في أوروبا خلال العام الحالي بنسبة 54 في المئة كمعدل وسطي مقارنة بالعام 2020، ما سيدفع بنسبة كبيرة من هذه العائلات إلى "دائرة فقر الطاقة". وتوقع التقرير ارتفاع النسبة إلى 70 في المئة للشركات والمصانع، وهو ما دفع ببعض المصانع ذات الاستخدام الكثيف للطاقة مثل الألمنيوم إلى تخفيض إنتاجها أو حتى الإقفال.
تراجعت مخزونات الغاز في الدول الأوروبية إلى أدنى مستوياتها منذ عشرين عاماً، علماً أن السحب من المخزونات يُعتبر "خطوة مسرحية" أو "حقنة مسكّنة" قد تساهم في تهدئة الأسواق مؤقتاً. فالكميات التي تضخها أمريكا مثلاً من مخزونها الاستراتيجي تكفي لتغطية الطلب لمدة 12 ساعة فقط. يُضاف إلى ذلك اشتعال المنافسة بين أوروبا والدول الآسيوية، بخاصة الصين والهند لاقتناص أي كمية من النفط والغاز في السوق.
هذا إضافة إلى اشتعال احتجاجات شعبية عنيفة في أكثر من دولة أوروبية، وسط مخاوف من توسُّعها وتفاقمها، وهو ما حذّر منه صراحةً وزير المالية الفرنسي برونو لومير في مؤتمر صحافي عقده في 6 يناير/كانون الثاني الجاري بقوله: "إن احتجاجات كازاخستان تُعَدّ نموذجاً لما يمكن أن نصل إليه بسبب ارتفاع أسعار الطاقة"، معتبراً أن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للأزمة تمثّل "حالة طوارئ فعلية، لأنها باتت تهدّد العائلات والشركات"، وهو ما اعتبره بعض المراقبين تمهيداً من "معاليه" لكي تتجرّع فرنسا والدول الأوروبية الأخرى "الكأس المرة"، إما بالتراجع عن سياساتها، وإما بتوفير دعم حكومي بمليارات الدولارات لتخفيض الأسعار.
"بيروقراطيو" بروكسل
بعيداً عن الأسباب التي يتم تداولها، مثل العوامل المناخية المتطرفة في الشتاء والصيف الماضيين، ووقف بعض الدول كألمانيا للمفاعلات النووية، والتعافي النسبي من وباء كورونا، إلخ، فالسبب الحقيقي هو سياسات المناخ الأوروبية "الشعبوية"، الهادفة إلى تقليص سريع لانبعاثات الغازات الدفيئة، بخاصة الكربون، من خلال فرض قيود صارمة على الوقود الأحفوري (نفط، غاز، فحم)، دون أن تكون مصادر الطاقة النظيفة حتى النووية (بافتراض نظافتها)، قادرة على تلبية النقص المتوقَّع في المعروض.
ونذكر من هذه السياسات والإجراءات على سبيل المثال، وقف تمويل خطوط أنابيب النفط والغاز الجديدة وفقاً للائحة المعدلة لشبكات الطاقة عبر أوروبا، لصالح تعزيز شبكات الكهرباء وخطوط محطات توليد الكهرباء من الطاقة المتجددة. وكذلك وقف الدعم عن المشروعات التي تستخدم الوقود الأحفوري. وترافق ذلك مع تغيير الاتحاد نسبة تخفيض الانبعاثات لتصل إلى إلى 55 في المئة بحلول العام 2030، بدلاً من 40 في المئة. واعتمد لتحقيق ذلك فرض زيادات كبيرة على تصاريح "بدل الكربون" الذي تدفعه الشركات الصناعية وشركات توليد الكهرباء التي تستخدم الوقود الأحفوري، ما أدى تلقائياً إلى رفع أسعارها أو توقفها عن العمل.
ولتقليل الشرح حول السياسات الأوروبية، نشير إلى تصريح رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان الذي قالها بصراحة مطلقة: "إن إجراءات الاتحاد الأوروبي لمكافحة تغيُّر المناخ هي السبب الحقيقي لارتفاع الأسعار، واندلاع أزمة طاقة قد تمتدّ لسنوات"، محمّلاً المسؤولية لمن أسماهم "بيروقراطيي" بروكسل، وطالب بالتراجع الفوري عن هذه الإجراءات.
ولتكتمل الصورة تجدر الإشارة إلى أن الدول المنتجة ممثلة بـ"أوبك+"، لم تُبدِ أي استعداد لزيادة الإمدادات وتهدئة الأسواق، رغم الضغوط السياسية الكبيرة بخاصة من قبل الولايات المتحدة. وقررت في اجتماعها الأخير زيادة الإنتاج بمقدار 400 ألف برميل فقط في فبراير/شباط المقبل. وطبعاً يستند موقف هذه الدول إلى سببين: الأول سعيها لحماية مصالحها المهددة بفعل سياسات التقليص السريع لاستخدام الوقود الأحفوري، والثاني، وهو الأهم، عدم وجود طاقات إنتاجية كافية لزيادة المعروض بسبب التراجع الكبير في الاستثمارات في قطاع النفط والغاز، الذي انخفض من 525 مليار دولار في العام 2019، إلى 341 مليار دولار في العام 2021، حسب أمين عامّ منتدى الطاقة العالمي جوزيف مكمونغيل. وأضاف أن إعادة التوازن للأسواق ومواجهة أزمة الطاقة التي "تطرق الباب" يتطلب ضخّ استثمارات بقيمة لا تقلّ عن 500 مليار دولار سنوياً حتى العام 2030.
تطوير "النظيفة" و"تنظيف" الأحفورية
في رأينا أن المطلوب ببساطة سياسات تحقّق انتقالاً متوازناً للطاقة، يقوم على تطوير الطاقة النظيفة دون تدمير للطاقة الأحفورية، بل السعي "لتنظيفها" من خلال الاستثمار في تطوير تقنيات ومشاريع استخلاص الكربون وإعادة استخدامه في ما بات يُعرف "بالاقتصاد الدائري للكربون"، بخاصة أنه حتى لو تَحقَّق هدف "صافي انبعاثات صفري" في العام 2050، فسيبقى العالم بحاجة إلى نصف كميات الغاز وربع كميات النفط كما توقع تقرير تاريخي صدر مؤخراً عن وكالة الطاقة الدولية "المعادية" أساساً للوقود الأحفوري.
أما الانتقال المتوازن والناجح، فيعني المواءمة بين ثلاثة عوامل رئيسية: أولاً تقليص الانبعاثات وحماية البيئة، ثانياً توافر إمدادات كافية من مصادر الطاقة كافة، ثالثاً عدالة التوزيع بين الدول الصناعية والنامية وبين الفئات الاجتماعية في كل دولة. وأي خلل في أحد هذه العوامل يؤدي كما قال أمين عامّ "أوبك" في كلمته أمام مؤتمر "كوب 26"، "إلى نتائج غير محسوبة، كاختلال استقرار الأسواق، وتذبذبات غير اعتيادية، وشُحّ في إمدادات الطاقة"، معتبراً إن "الانتقال الكامل من الوقود الأحفوري إلى بدائل الطاقة هو أمر مضلّل، فالعالم بحاجة ماسَّة إلى جميع أنواع الطاقة".
والخوف أن تؤدي السياسات الشعبوية ليس إلى أزمة طاقة تتحول إلى أزمة اقتصادية، بل الأخطر إلى تقويض جهود تطوير الطاقة النظيفة و"حماية كوكب الأرض من الانتحار" وهو ما حذّر منه الكاتب الأمريكي توماس فريدمان بقوله: "إذا عجزت الطبقات الفقيرة والمتوسطة عن تدفئة منازلها في هذا الشتاء، فأخشى أن نرى ردود فعل شعبية عنيفة ضدّ حركة المناخ والبيئة الخضراء... وبدأنا فعلاً نشمّ تلك الرائحة القادمة من بريطانيا".
المصدر: TRT عربي
https://bit.ly/3FnG1mC
| قرّاء غدي نيوز يتصفّحون الآن |