Thursday, January 27, 2022
الجغرافيا والطوائف وغاز لبنان: هوكشتاين لن يرفع الحصار
"غدي نيوز"
كتب ياسر هلال في "المدن:
سواء صحت الأخبار عن تحديد موعد زيارة المبعوث الأميركي عاموس هوكشتاين إلى لبنان مطلع شباط المقبل، أم تم تأجيل الزيارة مجدداً، فذلك لا يغير كثيراً في جوهر المشكلة التي تواجه ملف النفط والغاز. وتتمثل هذه المشكلة في شقين: الأول عدم وجود اتفاق بين أركان النظام السياسي لا على ترسيم الحدود ولا على كيفية استغلال الثروات النفطية، وتحول الملف إلى مادة للصراع السياسي بينهم. والمشكلة الثانية، هي تراجع اهتمام الشركات العالمية بثروات الهيدروكربون في لبنان وشرق المتوسط عموماً بسبب الأوضاع السياسية والنزاعات الحدودية، وبسبب تراجع تنافسية غاز المتوسط، نتيجة ارتفاع تكاليف إنتاجه وصعوبة تصديره.
تعطيل بدعاوى حقوق الطوائف
بالنسبة للمشكلة الأولى فقد وظف زعماء الطوائف والأحزاب ملف الترسيم واستغلال الموارد منذ العام 2002، في الصراعات الطائفية والسياسية والإدارية. إذ سعت كل طائفة وكل حزب، خلافاً لأحكام الدستور والقوانين والمنطق، للاستئثار به واستخدامه لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية ومالية. وتناوبوا جميعاً على تعطيل أي إنجاز سواء في ملف ترسيم الحدود أو في ملف استغلال الموارد، لمدة عشرين عاماً. وهي المدة نفسها التي تحولت فيها إسرائيل وقبرص ومصر إلى دول منتجة ومصدرة للغاز.
ومن أبرز المحطات المتعلقة بملف استغلال الموارد، تلك الخاصة بتعطيل إقرار المراسيم واتفاقيات الاستكشاف والإنتاج لدورة التراخيص الأولى لمدة أربع سنوات كاملة. ولما أفرج عنها بعد التسوية الرئاسية، كانت ظروف السوق قد تغيرت، وكانت الشركات العالمية قد أدركت عقم الإدارة اللبنانية ومخاطر الاستثمار في "هكذا دولة". وتم بذل جهد كبير لإنقاذ دورة التراخيص في آخر لحظة من خلال العرض الوحيد الذي قدمه كونسورتيوم "توتال، إيني، نوفاتك". علماً أن هذه الشركات لم تكن متحمسة للمشاركة بقدر اهتمامها بأن لا يتم التلزيم لشركات أخرى، خاصة الشركة الهندية التي دخلت على الخط.
.. وبدعاوى السيادة وحفظ الحقوق
أما ترسيم الحدود، فشهد ارتكاب كل أنواع الأخطاء والخطايا لناحية تحديد إحداثيات الحدود وتحديد خطوط المنطقة الاقتصادية الخالصة. وتناوب زعماء الطوائف والأحزاب على تعطيل أي تقدم ممكن في الملف بدعاوى "انتهاك السيادة" و"التفريط بالحقوق" حيناً، وبدعاوى الصلاحيات والجهة المخولة بالتفاوض حيناً آخر. ولكي لا تضيع حقائق الترسيم وسط "ترهات التعطيل"، وقبل أن تتم المجاهرة بما يتم التداول به همساً في "مجالس إدارة" الطوائف والأحزاب، حول تقسيم بلوكات النفط والغاز بين الطوائف والمناطق، نذكر ببعض المسلمات، وهي:
أولاً: ترسيم الحدود البحرية يتعلق بالمنطقة الاقتصادية الخالصة. وهي لا تخضع للسيادة اللبنانية كما هي الحال بالنسبة للمياه الإقليمية. وتقاسم المناطق الاقتصادية الخالصة يتم عبر مفاوضات واتفاقيات بين الدول المتقابلة والمتجاورة. ولأنها تدعى مفاوضات، فهي تستلزم المناورة باستخدام كافة أوراق القوة المتوافرة مثل توقيع تعديل المرسوم 6344، واعتماد الخط 29، مع الاتفاق سلفاً على أن أي طرح لا يعني الذهاب إلى الحرب. كما أن التراجع والتنازل لا يعني تفريطاً بالسيادة والحقوق. أما الاحتكام إلى قانون البحار فهو ضرورة بالطبع، ولكنه ليس الطريق لحل النزاعات، وتشهد على ذلك مئات الدعاوى العالقة أمام المحكمة الدولية لقانون البحار.
ثانياً: مفاوضات الترسيم تتعلق باستغلال الموارد وتقاسمها وليس برسم خطوط على سطح الماء. ومعالجة مشكلة وجود مكامن مشتركة لا تتم بنظم "قصائد الفخر" من نمط "لن نتنازل عن شبر ماء"، بل تحتاج إلى حلول من نمط رسم خط متعرج للحدود، للتقليل قدر المستطاع من وجود مكامن مشتركة مثلاً. أو تكليف الشركات المعنية بمهام الإنتاج وتقسيم العوائد وفق معايير ومعادلات معروفة ومجربة في أكثر من دولة.
ثالثاً: من بديهيات التفاوض لترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة شمالاً وجنوباُ وغرباً، وجود هيئة تضم كافة الجهات المعنية وفي مقدمتها الجيش اللبناني، تحظى بإجماع وطني على تشكيلها وأهدافها وطرق عملها وسقوف التنازلات الممكنة. وأن يكون ظهرها محمياً من خناجر التعطيل والتخوين. وطبعاً يكون لها الحق في تحديد من تنتدب للتفاوض مع العدو ومع الشقيق والصديق. وتكون هذه الهيئة هي المرجعية الوحيدة لملف الترسيم، وبذلك يرتاح السيد هوكشتاين الذي اشتكى مراراً من اضطراره في كل زيارة إلى لبنان، لأن يقابل كل الرؤساء والزعماء ليطلع على رؤية لبنان للملف و"لتفادي الازدواجية والخلافات بين السلطات اللبنانية المعنية" كما قال.
وحل هذه المشكلة يتطلب أولاً وقبل كل شيء أن تتوقف المفاوضات مع إسرائيل، وأن يبادر أركان الطبقة السياسية إلى مفاوضة بعضهم بعضاً للتوصل إلى اتفاق، أو ترك ملف النفط والغاز للأجيال المقبلة، لعلها تفرز مواطنين بدل أتباع، وقيادات بدل زعامات، وأحزاباً بدل ميليشيات. ولعلها تنتج دولة، تكون مؤهلة لترسيم حدودها واستغلال مواردها براً وبحراً.
غاز المتوسط: مشاكل التصدير والتكلفة
بالنسبة للمشكلة الثانية، فالمعروف والمسكوت عنه، أن ثروة الغاز في لبنان وشرق المتوسط عموماً تواجه العديد من المشاكل التي تؤدي في المحصلة إلى إحجام الشركات عن الاستثمار، خصوصاً في ظل التوجهات العالمية لفرض قيود تنظيمية وتمويلية على أنشطة الوقود الأحفوري. ويمكن إيجاز أبرز هذه المشاكل في ما يلي:
- النزاعات الحدودية وارتباط حلها بالصراعات والتحالفات السياسية المتشابكة والمتغيرة في المنطقة. ما يرفع مخاطر الاستثمار في الاستكشاف والانتاج. ويؤدي بالتالي إلى إحجام الشركات العالمية عن إبرام عقود جديدة، بل إلى تجميد وتقليص العمل في العقود الموقعة. وذلك ما حدث في قبرص بعد تدخل البحرية التركية لمنع سفن الحفر من مواصلة العمل في البلوكات المتنازع عليها، أو لحماية سفن الحفر التركية التي تعمل في هذه البلوكات. وهو ما حدث أيضاً في لبنان لناحية تلكؤ تحالف "توتال، إيني، نوفاتك" في تنفيذ أعمال الحفر المنصوص عليها في الاتفاقية الموقعة مع لبنان، والاكتفاء بحفر بئر "رفع العتب" في البلوك 4. وكذلك في إسرائيل لناحية إحجام الشركات العالمية الكبرى عن المشاركة في دورات التراخيص.
- ضآلة حجم الاحتياطيات: يقدر التقرير الأخير لهيئة المسح الجيولوجي الأميركية الذي نشر في تموز الماضي، الاحتياطيات المحتملة وليس المؤكدة في شرق المتوسط بحوالى 285 تريليون قدم مكعب، أما الكميات المكتشفة طوال العقد الماضي الذي شهد عمليات تنقيب مكثفة، فلم تتجاوز 90 تريليون ق/م، تستأثر مصر بالحصة الأكبر منها. في حين تبلغ الاحتياطيات المؤكدة في قطر مثلاً حوالى 900 تريليون ق/م، وفي إيران حوالى 1130 تريليون ق/م. وتصل في روسيا إلى حوالى 1320 تريليون ق/م.
وفي لبنان، وبعيداً عن المبالغات والتسريبات عن وجود ثروة هائلة "وحقول عملاقة تمتد من الناقورة إلى حمص"، تشير المسوحات إلى وجود العديد من المكامن وجزء منها من النوع المقفل الذي ترتفع فيه احتمالات وجود احتياطيات مؤكدة، ولكن لا يمكن تقدير الحجم القابل للاستغلال إلا بعد حفر عدة آبار وتقييمها. والمرجح ان تكون مشابهة في الاحتياطيات المؤكدة لما تم اكتشافه في قبرص وإسرائيل.
- صعوبة التصدير: معروف ان وجود بنية تحتية للتصدير يشكل العامل الحاسم في اتخاذ الشركات قرار الاستثمار في شرق المتوسط، في ظل محدودية القدرة الاستيعابية للأسواق المحلية. ولا يوجد حتى الآن أي وسيلة لتصدير الغاز سوى محطتي التسييل في مصر (إدكو ودمياط) وهما تعملان حالياً بالطاقة القصوى تقريباً. وشكل إعلان أميركا مؤخراً عن وقف دعمها لإنشاء خط أنابيب "إيست ميد" انتكاسة كبيرة، علماً أن هذا الخط كان موضع شكوك جدية في جدواه التجارية. ومن الخيارات الممكنة إنشاء محطات تسييل في قبرص أو إسرائيل ولكن ذلك موضع شكوك أيضاً لناحية الجدوى الاقتصادية. أو إنشاء خط انابيب إلى تركيا، إذا توافرت الظروف السياسية اللازمة.
- ارتفاع تكاليف الإنتاج: تقع حقول الغاز في لبنان وشرق المتوسط في مياه عميقة ما يجعل استغلالها محصوراً في عدد محدود من الشركات العالمية التي تمتلك الامكانيات المالية والفنية. إضافة إلى ارتفاع تكاليف الانتاج، إذ تقدر تكلفة كل مليون وحدة حرارية بريطانية عند رأس البئر بحوالى 4 دولارات أي من دون احتساب تكاليف التسييل والنقل والربح. وهو ما يجعل غاز المتوسط في وضع تنافسي صعب.
ولكن كل ذلك لا يعني أن الثروة النفطية في لبنان غير قابلة للاستغلال، بقدر ما يعني ضرورة التواضع في تقدير أهميتها السياسية والاقتصادية والمالية وعدم "بيع الأوهام" لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية. ويعني أيضاً ضرورة بدء التفكير الجدي في حلول وبدائل من "خارج الصندوق" للاستفادة من هذه الثروة.
أما الحل فننقله عن أحد الخبراء اللبنانيين المهجرين إلى أميركا بقوله: يجب التفكير باعتماد حلول تستشرف المستقبل، كاستخدام الغاز لإنتاج الهيدروجين الأزرق والأمونيا الزرقاء، أو لإنتاج الكهرباء، ليكون لبنان في صلب المشروع الضخم الذي يجري التحضير له لربط الشبكات المتوسطية والأوروبية، والذي يقوم على تصدير الكهرباء بدل الغاز.
.. وعليه، لا طائل من انتظار السيد هوكشتاين قبل إيجاد حل للمشكلة الأولى، وبدء التفكير في الثانية. فكل ما يعني هوكشتاين هو التوصل إلى أي اتفاق يريح إسرائيل، ويسمح لها بتكثيف أنشطة استغلال مواردها.
المدن:https://bit.ly/3g5KNe5
| قرّاء غدي نيوز يتصفّحون الآن |